جمال محمد غيطاس
لعقود طويلة حاول الحاسب أن يعمل بطريقة تحاكي عمل المخ البشري المسئول عن كل العمليات العقلية للإنسان، وحقق في ذلك خطوات لا بأس بها، كان من ابرزها ” الشبكات العصبية “، وخلال السنوات الأخيرة انتقل الحاسب من تنفيذ المحاكاة، إلى محاولة التفاعل الحى مع المخ مباشرة، ليقرأ ويفهم ما يدور به من أفكار ثم يتبادل معه الرأي بشأن ما يمكن عمله تجاهها، لتصبح المعادلة بينهما قائمة على أن المخ البشري يفكر، والحاسب يقرأ ويفهم ويستأذن وينفذ، من دون أن يصدر عن الإنسان صوت يسمعه الحاسب، أو تتحرك له يد تلمس لوحة مفاتيحه او شاشته.
استغرق الأمر عدة عقود لكي يصبح الانتقال من المحاكاة إلي التفاعل فكرة قابلة للبحث، ومسار واضح بدرجة تسمح بالمضي قدما خلاله خطوة خطوة، وخلال هذه الرحلة الشاقة، كان الأمل معقودا على النجاح في بناء قناة ربط رحبة بلا عوائق، بين النشاط الكهربي والنبضات العصبية بالمخ، والنشاط الكهربي والمعالجة الرقمية للمعلومات بالحاسب، بهدف الوصول إلي مرحلة يتم فيها التقاط إشارات المخ العصبية، ثم فك شفرتها وفهمها، لفتح الطريق نحو ترجمة ومعرفة ما تحمله من أفكار تموج بالمخ أو مختزنة فيه، ليتم في النهاية تحقيق تواصل مادي مباشر بين المخ والحاسب، واستنادا لهذا التواصل المادي المباشر، يمكن بناء المعادلة القائمة على أن المخ البشري يفكر، الحاسب يقرأ ويفهم ويستأذن وينفذ، لتنشأ عن ذلك انطلاقه مهولة غير مسبوقة، نتيجة التقاء واندماج العملاقين : ذكاء البشر وذكاء الآلة.
في الحالة الحالمة الهادئة، يجري التأكيد على أن الهدف من معادلة المخ يفكر والحاسب ينفذ، هو منح العقل البشري سيطرة أوسع واعمق وأقوي على الأجهزة المتاحة، و جعل تشغيلها والاستفادة منها اسهل وأكثر سرعة.
في الحالة المتطرفة المتشائمة، يجرى الحديث عن مخاوف متنوعة، ابسطها ان هذه المعادلة ربما تقود إلي نوع من الذكاء الرقمي الخارق، الذي يتضمن تخزين وإعادة تحميل الذكريات والخبرات في جسد آخر أو حتي روبوت، بما في ذلك من تداعيات ومخاطر لا حصر لها.
سواء كانت الغلبة للحالة الحالمة أو المتشائمة، فإن الواقع العلمي يشير إلي أن البحوث والنتائج الجارية تمضي على قدم وساق، في مرحلة ما قبل الحلم والتشاؤم، وهي استكشاف الطريق ووضع الأسس الأولية، وما تم التوصل اليه في هذا السياق ليس بالأمر الهين على الإطلاق.
وسأشير هنا إلي نماذج مما تم الإعلان عنه منذ مطلع العام وحتي الآن، أي خلال أربعة اشهر ونصف فقط.
في مطلع العالم كشف مركز أبحاث “وايس” السويسري النقاب عن أنه أنتج نظاما معلوماتيا استطاع قراءة والتعرف على كلمتي “نعم” و “لا” عند ورودهما في المخ، ثم عرضهما على الشاشة، وذلك مع المصابين بمرض “الانحباس التام”، الذي يفقد المريض القدرة على تحريك اي شيء بجسده حتى جفون العين، فضلا عن فقد النطق، في حين يظل المخ لديه يعمل بكامل طاقته.
يحاول هذا النظام استخدام الحاسب في الاستفادة من حيوية المخ في تحقيق أي مستوى من التواصل بين المريض ومن حوله، وللقيام بذلك قام الباحثون بالمركز ببناء نظام يحمل اسم “واجهة التفاعل بين الحاسب والمخ”، ويتكون من جزءين، الأول لرصد ومتابعة وتحليل النشاط الحيوي للمخ، وهو عبارة عن “طاقية” توضع على رأس المريض، ومغطاة بأجهزة استشعار بصري، تعمل بتقنية “التحليل الطيفي الأشعة تحت الحمراء القريبة” وتستخدم الليزر في قياس النشاط الأيضي أو الحيوي بالمخ، والجزء الثاني عبارة عن حزمة برمجيات معقدة متخصصة في تلقى المعلومات الواردة من التحليل الطيفي واشعة الليزر عن نشاط مخ المريض، وتحليلها بعمق، لفك شفرتها و توليد ما يمكن وصفه “ببصمة” النشاط الذي يجري بالمخ وقت تشغيل النظام، أو شكل وطبيعة النشاط الذي يظهر بالمخ عندما تجول خاطرة أو فكرة ما في عقل المريض، بحيث تعبر كل بصمة عن شىء او معنى محدد، ويقوم النظام البرمجي بترجمتها إلى معنى ما، ثم التعبير عن هذا المعنى على الشاشة في صورة كلمات.
تم تجربة النظام بصورة مبدئية على اربعة مرضى، حيث وجهت لهم أسئلة من قبيل: هل باريس عاصمة الولايات المتحدة؟، وتبين أنه لابد من أن يتعلم النظام ويفهم بصمة كلمة “لا” وبصمة كلمة “نعم” لكل مريض على حدة، بمعنى أن كل نسخة من النظام تستخدم لمريض واحد، ويتم تدريب النظام حتى يصبح مهيأ تماما للتعامل مع المريض، وبعد ذلك يمكن المضي قدما في استخدامه من قبل الاصدقاء، والقائمين على الرعاية الطبية.
انتهى هذا الجهد الضخم إلى قراءة كلمتين فقط مما يجرى بعقل الانسان هما نعم ولا، إلا أن الدكتور نيلس رئيس الفريق يعتبر ما حدث ذو قيمة عالية، لان قراءة نعم ولا من داخل عقل المريض بواسطة الحاسب تفتح أمامه بابا للتواصل مع المحيطين به، وتمنح حياته معنى، لأنه لا قيمة للحياة بدون تواصل، ولاشك سيكون مجرد رؤيته للإجابة على الشاشة أمامه امرا طيبا بالنسبة له.
في مطلع العام ايضا، ظهر على مسرح كبير في مؤتمر صحفي عالمي الخنزير” جيرترود ” وهو يتدافع ويلهو بقلم، بينما الشريحة المثبتة في رأسه ترصد النشاط العصبي لمخ الخنزير كاملا، وتنقله لاسلكيا عبر تقنية ” بلوتوث ” ليعرض على شاشة حاسب، محققا تمثيلا رقميا لكل نشاط عصبي مرتبط بأي حركة يقوم بها الخنزير، وكأن الحاسب يقرأ ما يحدث بالمخ.
الخنزير “جيرترود” كان مزودا بشريحة الكترونية تضم 1024 قطب كهربائي فائقة الضآلة، ومثبتة في ملليمتر واحد داخل جمجمته، لتقرأ ما يدور في مخه من أفكار وتمررها عبر قناة تواصل بين المخ، وجهاز حاسب موضوع بجانبه، عبر اتصال لاسلكي بتقنية بلوتوث.
أجريت البحوث الخاصة بالخنزير جيرترود من قبل شركة ” نيورا لينك” المتخصصة في بحوث حوسبة العقل والتفكير، التي أسسها ويرأسها خبير التقنية البارز عالميا إيلون موسك، الذي أسس ويرأس أيضا شركة سبيس اكس الفضائية وتسلا للسيارات الكهربائية، ويعد الخنزير جيرترود ثالث محاولة تقوم بها الشركة خلال ثلاثة أعوام متتالية، لزرع شرائح الكترونية بالغة الصغر والدقة، في رؤوس كائنات حية، بغية رصد نشاطها العصبي داخل المخ، ونقله للحاسبات لفك شفرته وقراءته، حيث عرض موسك في عام 2018 أول تجربة قامت بها شركة “نيورا لينك” وتمت على الفئران، وفي سبتمبر 2019، عرض ثاني تجربة تمت على قرد، ثم جاءت تجربة الخنزير جيرتود لتمثل الجولة الثالثة في أعمال الشركة.
في غضون ذلك دخل فيس بوك على الخط، وكشف النقاب في 18 من مارس عن سوار يفك إشارات المخ عند المعصم ويترجمها لأوامر رقمية تنفذها الأجهزة، وهذا السوار ليس سوى جزء من مشروع فيس بوك للتفاعل بين المخ والحاسب.
قال فيس بوك عن هذا السوار أنه ر يستند إلي فكرة المدخلات القائمة على المعصم، أو البيانات العصبية المترجمة رقميا، والملتقطة من معصم اليد، وإدخالها في الأداة القارئة لإشارات المخ، وهو طريقة مختلفة عن المستهدف في المشروع الأساسي، للتفاعل بين المخ والحاسب، والذي يقوم على قراءة إشارات المخ، من المخ مباشرة، وليس بعد ارسالها لأي من أعضاء أو اطراف الجسم.
يمثل هذا النهج مستوي أقل، مقارنة بالأهداف والطموحات التي يعمل عليها المشروع الأساسي، ويؤكد فيس بوك أن سوار المعصم القارئ لإشارات المخ يمثل القسم الثاني من المشروع، ويتم تنفيذه على المدي المتوسط والقريب، وصولا إلي أداة تتكيف ديناميكيا مع البيئة المحيطة، في نطاق الإشارات التي يبثها المخ لليد فقط، وليس كل الإشارات الصادرة في شتي الاتجاهات، ومن هنا فإن الإدخالات أو البيانات الداخلة للأداة تأتي من المعصم، وعليه تم تسميته بالمدخلات القائمة على المعصم.
يعمل سوار المعصم بنوعية متقدمة من الذكاء الاصطناعي، يطلق عليها الذكاء الاصطناعي المدرك للسياق، أي الذي يفهم أوامرك وأفعالك بالإضافة إلى السياق والبيئة من حولك، والتكنولوجيا التي تتيح لك التواصل مع النظام دون عناء – وهو نهج يطلق عليه ـ بحسب أندرو ـ إدخال منخفض الاحتكاك، يقوم بالحصول على استنتاجات عميقة حول المعلومات التي قد تحتاجها أو الأشياء التي قد ترغب في القيام بها في سياق محدود، يتكيف ديناميكيًا مع بيئتك.
في الأسبوع الأول من إبريل عادت شركة نيورا لينك للواجهة مجددا، ونشرت فيديو على قناتها الرسمية بيوتيوب، يلخص نتائج تجربة جديدة، نفذت على قرد وهو يمارس إحدى الألعاب الالكترونية، ويظهر الفيديو، كيف تمكن الباحثون بالشركة، من جعل الحاسب يقرأ الإشارات العصبية بمخ القرد، المسئولة عن تنفيذ الحركات التي تصدر من القرد ليديه، وهو يشغل عصا التحكم الخاصة باللعبة، وينتقل بها من مرحلة لأخرى من الفهم، وصولا إلي مرحلة يتخيل فيها القرد الحركات المطلوبة لتشغيل عصا التحكم، ويقوم الحاسب بتنفيذ الحركات فعلا على الشاشة.
يعرض الفيديو ثلاث مراحل لعملية القراءة الحاسوبية للنشاط العصبي للمخ وذلك على النحو التالي:
ـ في الجزء الأول من الفيديو يظهر القرد وهو يحرك عصا التحكم في لعبة يتم ممارستها على الشاشة، وفي الوقت نفسه يدخل طرف أنبوب في فمه، اثناء اللعب، ويمتص منه العصير، وتتحرك رأسه مع يده الممسكة بعصا التحكم.
خلال قيام القرد بالحركات التي ينفذها بيده اثناء اللعب، تقوم القناة الرابطة، أو الناقل العصبي للإشارة المخية، بنقل جميع الإشارات الي الحاسب، المزود بنماذج رياضية “خوارزميات” متقدمة، متخصصة في تلقي وتحليل وفك شفرة الإشارات العصبية الواردة من المخ، في الوقت الحقيقي، وفهمها، والقدرة على تحويلها إلي عصا التحكم، لتقوم بتحريك اللعبة كما لو كان القرد يقوم بها فعليا.
ـ في الجزء الثاني يظهر بالتجربة كابل عصا التحكم، وقد تم فصله عن الشاشة وعن عصا التحكم، فيما يظهر القرد للمرة الثانية، وهو ممسك بعصا التحكم، ويدخل طرف الانبوب في فمه، تماما كما كان يفعل في المرة الأولي، وعلي الرغم من ان كابل عصا التحكم مفصول، إلا أن حركات اللعب تظهر على الشاشة، كما كان الحال في المرة الأولي عند اتصاله، وذلك لأن خوارزميات واجهة التفاعل بين مخ القرد والحاسب، قد قامت بنقل وتحليل وفك شفرة جميع الإشارات العصبية الصادرة عن المخ ليدي القرد، ثم تنفيذها على الشاشة، وذلك بصورة لحظية، مما جعل اللعب على الشاشة يتم كما لو كان القرد هو من يحرك عصا التحكم.
في الجزء الثالث من التجربة، يظهر القرد وقد ادخل طرف الانبوب في فمه، بينما أزيلت عصا التحكم بالكامل من المشهد، وباتت العلاقة بين القرد والشاشة هي النظر فقط، ويوضح الفيديو أنه عندما بدأ القرد في تخيل كيف يمارس اللعبة، ومن دون ان يستخدم يديه، واكتفي فقط بتحريك الرأس، والإمساك بالأنبوب، ظهرت اللعبة على الشاشة، وكأن هناك من يمسك عصا التحكم بيده، ويقوم بممارسة اللعبة، ما يعني أن الحاسب استطاع قراءة أفكار القرد، وتخيلاته حول كيفية ممارسة اللعبة، ثم نفذ هذه الأفكار فعليا على الشاشة في الوقت الفعلي.
ليست هذه سوى عينة بسيطة من بحوث بلا حصر، تندرج جميعها تحت راية العلاقة بين العقل البشري “الأصلي”، والعقل الإلكتروني “الاصطناعي”، وليست المحاكاة والتفاعل سوى طرف بسيط من تفاصيل كثيرة في هذه العلاقة الغامضة الطموحة المتحدية التي لا نعرف إلي أين تمضي ومتي ستقف، وماذا سيترتب عليها.
كاتب صحفي
|
المعادلة المستهدفة: المخ البشري يفكر، والحاسب يقرأ ويفهم ويستأذن وينفذ، من دون أن يصدر عن الإنسان صوت يسمعه الحاسب، أو تتحرك له يد تلمس لوحة مفاتيحه او شاشته
الهدف في الحالة الحالمة الهادئة: منح العقل البشري سيطرة أوسع واعمق وأقوي على الأجهزة المتاحة، و جعل تشغيلها والاستفادة منها اسهل وأكثر سرعة
الهدف في الحالة المتطرفة المتشائمة: الوصول إلي نوع من الذكاء الرقمي الخارق، الذي يتضمن تخزين وإعادة تحميل الذكريات والخبرات في جسد آخر أو حتي روبوت، بما في ذلك من تداعيات ومخاطر لا حصر لها.