الفقاعات السياسية الرقمية … احدث خدع الديكتاتورية

فقاعة

جمال محمد غيطاس

لاحظ الإناء المملوء بسائل يغلي، أو مياه البحر وهي تنحسر بعد الموج، وستجد كلاهما ينتج نفاخات كروية أو شبه كروية رقيقة جدا، ممتلئة بالهواء أو الغاز، ترتفع عن سطح السائل أو الماء قليلا بألوان تبدو جميلة متنوعة، وحركات تنبع روعتها من عشوائيتها، وفي ثوان قليلة تنفجر وتتبدد من دون اثر، وتلك هي الفقاعة في صورتها الفيزيائية أو الطبيعية.
وللفقاعة صور أخرى، ومنها الثقافية والمجتمعية والسياسة، ويقصد بها التصورات التي تحبس المرء داخل واقع جميل خادع متوهم زائل، يعزله عن عالمه الحقيقي، ليرى كل شيء من خلاله هو، معتقدا أنه الحقيقة الناصعة، ثم فجأة يتبدد كأن لم يكن، مشكلا صدمة التعامل مع واقع مختلف.
في السياسة تكون الفقاعة عبارة عن الميل للانغلاق على الآراء والتوجهات والايديولوجيات التي تتوافق مع توجهاتك وقناعاتك، بحيث لا ترغب ولا تطيق الاستماع إلى الآراء أو الأدلة المخالفة، لكن السياسة للأسف، لا تتوقف عند الفقاعات التلقائية التي تنشأ بعفوية، بل تعمد إلى توليد واختلاق فقاعات اصطناعية، تصممها وتبنيها على عينها، ثم تستميت في جذب الناس إليها، فيحدث ما يعرف بالاستقطاب، أي يصبح السياسي أو الحاكم صانع الفقاعة مرجعا وقطبا ينجذب له ويطيعه كل من دخلوها، ليكونوا جنوده وسنده القوي العنيف سريع الاندفاع ضد كل من هم خارجها، حتي لو كانوا مجرد مختلفين غير معارضين.
في عالم التقنية أصبحت “الفقاعات الرقمية” معينا وموئلا جديدا وخطيرا واسرع انتشارا للفقاعات السياسية بلا منازع، وتبلغ شراستها وسطوتها وتأثيرها الذروة في حالة السلطات المستبدة التي وجدت فيها أداة تعد هي الاحدث والأخطر فيما تستخدمه ضد شعوبها من ألاعيب وخدع.
في المؤتمر الدولي الخامس عشر للويب ووسائل التواصل الاجتماعي، الذي نظمته الجمعية الأمريكية لعلوم الذكاء الاصطناعي المتقدمة، فاز بحث بعنوان ” الاستقطاب السياسي في استهلاك الأخبار على الإنترنت” بجائزة أفضل بحث للمؤتمر هذا العام، وهو بحث أجراه فريق من العلماء بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة، وشركة موزيلا مطور متصفح فايرفوكس الشهير، ومدرسة لوزان الاتحادية للفنون التطبيقية، وهي إحدى الكيانات التابعة لمعهد بحوث وجامعة لوزان بسويسرا.
 وحينما طالعت البحث والتعليقات والتحليلات التي نشرت حوله، وجدت أنه يلقي ضوءا كاشفا ويفسر نواحي عدة في ظاهرة التوظيف السياسي للإنترنت بصورة عامة، ووسائل التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص، ومن بين هذه النواحي كيف يقوم الحاكم الديكتاتور، وما لديه من سلطة حكم مستبدة، في توجيه العديد من أدواته واجنحة حكمه نحو بناء فقاعة سياسية رقمية عملاقة، تجذب الملايين من شعبه، وتحبسهم داخلها، ليروا العالم من خلالها، ويصبحون في حالة استقطاب حاد، وتنافر صريح مع غيرهم ممن لا يرون الدنيا بلون وعيون فقاعة الديكتاتور وحكومته المستبدة.
أولى خطوات بناء فقاعة الديكتاتور الرقمية، هي استغلال ما اطلق عليه البحث “الميل الطبيعي” المسبق لدى مستخدمي الانترنت ووسائل التواصل، للانجذاب اكثر إلي استهلاك مصادر الاخبار والمحتوى الذي يتوافق مع ميولهم، وعقائدهم وايديولوجياتهم وتوجهاتهم والمجتمعية عموما، بأكثر من الميل الطبيعي المسبق الي استهلاك مصادر المعرفة والرأي في حد ذاتها، بغض النظر اختلافها أو اتفاقها.
من هذه النقطة تبدأ السلطات المستبدة في تمهيد الأرض نحو بناء الفقاعة، فتتوجه الي الملايين من جمهور الإنترنت بالمحتوى الذي يحمل ما تتوقع أنه يتوافق ميولهم وعقائدهم وتوجهاتهم، وتعمل على تضخيمه وبثه بصورة هادرة مستمرة بلا توقف، وتبدأ بما يعزز العقيدة الدينية، او الغرائز الحسية، ممثلة في الجنس وصور الاستهلاك المختلفة، أو الترفيه ممثلا في الموسيقي والغناء والفن والرياضة، أو الإثارة والغموض كالحوادث والنميمة والفضائح، ولا يمنع الامر بعض حوادث كشف الفساد بين الحين والحين.
على الجانب الآخر تعمل على تجفيف منابع كل أشكال المحتوي الذي يشجع على تنشيط العقل النقدي والملكات الإبداعية، والنقاش الحر والتعبير الحر، والقيم العليا، والحقوق السياسية، والقضايا الحقيقية للمجتمع، وصولا إلي مناقشة وتقييم تجربة وأسلوب الحكم نفسه قبولا ورفضا.
في الحالتين ـ الضخ الغزير والتجفيف العنيف ـ تستحدث السلطة المستبدة آلاف من المواقع والحسابات والمدونات ومصادر المعلومات القابلة للاستهلاك على الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وفي الوقت نفسه تحجب المئات وربما الآلاف من المصادر الأخرى، وفي معظم الأحيان لا تعبأ بالتأثير الضار والحاد لهذه الممارسة، وما ينجم عنها من استقطاب سياسي يشرخ المجتمع جزأين، بل في بعض الأحيان يكون صناعة الاستقطاب هدفا متعمدا مع سبق الإصرار.
أثناء بناء الفقاعة الرقمية يزدهر ما يسمي “ضجيج المباحث” ليصبح جزءا حيويا لا يتجزأ من الفقاعة، وضجيج المباحث هو جملة الحوادث والاخبار والموضوعات، والأشياء التي كان تختلقها أجهزة المباحث والأمن والمخابرات، أو ينتقونها بعناية فائقة من بين الحوادث الجارية، ويضخمونها وينشرونها بين العامة، لتصل للناس كالفاكهة النضرة المسمومة، فتلهيهم تماما، وتطغي على قضايا ووقائع أخري، يحرص الديكتاتور واتباعه على أن تكون غائبة عن أذهانهم ووعيهم، وتتجلي مهارات والمباحثيين في انصع احوالها واشدها نجاحا، حينما يقدمون ضجيجا، ما أن يذكر في مجالس الناس، أو يطرق مسامعهم على أي نحو، حتي يحدث حوله اتفاق جارف، او رفض عارم، او اختلاف شامل عنيف عميق، فيستولي على الانتباه كلية، ويحقق هدفه المنشود، وهو طمر القضايا الحقيقية، والمهمة والجادة، تحت ركام هادر من السخام السطحي، الذي يستنفذ طاقة الناس، على الرغم من كونه في جوهره، إما مختلق أو خال من القيمة.
من الأشياء التي رصدها البحث أن الخوارزميات التي تعمل بها محركات البحث الكبرى على الإنترنت، مثل محرك بحث جوجل وبنج وغيرهما، والخوارزميات التي تعمل بها شبكات التواصل الاجتماعي الكبرى، وعلى رأسها فيس بوك وتويتر، جميعها تعي ظاهرة الميل المسبق اكثر للمحتوي المتوافق، وتستغلها في عملها بصورة شبه دائمة وشاملة، فجوجل يظهر النتائج التي يري أنها اقرب إلي سلوكيات الباحث وطريقته في التعامل مع الأشياء عبر الإنترنت، وخوارزمية فيس بوك تعرض المحتوى الذي يقدمه اكثر الأصدقاء قربا وتفاعلا مع المستخدم، واكثر المصادر التي يفضلها ويزورها، وكذلك تفعل تويتر وغيرهم، وبالطبع تعي كتائب السلطة المسئولة عن بناء الفقاعة الرقمية هذه الخواص لدي محركات البحث وشبكات التواصل، وتبذل قصاري جهدها لاستغلالها في جذب المستخدمين لداخل الفقاعة، وتثبيتهم على المواقف التي تسعي إليها.
مع الاستمرار والإصرار على غزارة المحتوى المتوافق مع الميول المسبقة، وجفاف المحتوى غير المتوافق معها، تتكون الجدران الأولى للفقاعة، وينجذب إليها من يشكلون نواتها الصلبة الضخمة المستمرة النمو، ممن يرون الحياة كما يحبون، وليس كما يحتاجون أو ينبغي لهم أن يرون، فتصور لهم الفقاعة الرقمية الحياة على أنها خليط من أمور العقيدة السطحية المضبوطة على موجات التعصب والتطرف والخواء والأصوات العالية، والغرق في التفاصيل والفروع، بعيدا عن الأصول والقضايا الكبرى، وامور الغرائز، من غريزة الجنس الي الاستهلاك وحب المال وشهوة الإثراء السريع، الي حب الترفيه بصورة كافة، وفي غضون ذلك يتسلل المحتوى الذي يتغنى بحكمة الحاكم، وحنكته وانجازاته، وعدله وانسانيته، لتصبح الصورة المصدرة للحاكم، هي نفسها الصورة التي يتبناها الملايين داخل الفقاعة، ويدافعون عنها بضراوة وعنف بل وانحطاط أحيانا.
بعد الانتهاء من قراءة هذا البحث وتأمل ما انجزته بعض السلطات الديكتاتورية في هذه الدولة أو تلك في بناء فقاعتها الرقمية السياسية، لا يمكنك سوى أن ترفع لهذه السلطات القبعة، نظرا للدأب والذكاء في تضخيم الفقاعة، وتوسيع حدودها وآفاقها، لتستوعب كل يوم اعدادا إضافية من المخدوعين الموهومين بجمال وحلاوة الفقاعة، سواء كانوا قطيع ماعز تساق إليها تحت سيف الخوف ووطأة القهر، أو كانوا من الثعالب الصغيرة آكلة الجيف، ممن اختاروا طوعا وعن وعي لعق احذية الحكام، لكن يظل الإعجاب والتقدير طارئا محدودا متوقفا عند حقيقة أن كل ما يحدث فقاعة، ما أن تنفجر حتي تتبدد من دون أثر، تاركة ما بداخلها يواجهون أعباء وقسوة ومرارة الاصطدام بالواقع الحقيقي.
كاتب صحفي
خبير تقنية
مؤسس مجلة لغة العصر
 

       

 

 

أولى خطوات بناء فقاعة الديكتاتور الرقمية، هي استغلال ظاهرة “الميل الطبيعي” المسبق لدى مستخدمي الانترنت ووسائل التواصل، للانجذاب اكثر إلي استهلاك مصادر الاخبار والمحتوى الذي يتوافق مع ميولهم، وعقائدهم وايديولوجياتهم وتوجهاتهم والمجتمعية، بأكثر من الميل الطبيعي المسبق لاستهلاك مصادر المعرفة والرأي في حد ذاتها

 

 

 

في عالم التقنية أصبحت “الفقاعات الرقمية” معينا وموئلا جديدا وخطيرا واسرع انتشارا للفقاعات السياسية بلا منازع، وتبلغ شراستها وسطوتها وتأثيرها الذروة في حالة السلطات المستبدة التي وجدت فيها أداة تعد هي الاحدث والأخطر فيما تستخدمه ضد شعوبها من ألاعيب وخدع

 

 

 

أثناء بناء الفقاعة الرقمية يزدهر ما يسمي “ضجيج المباحث” ليصبح جزءا حيويا لا يتجزأ من الفقاعة، وضجيج المباحث هو جملة الحوادث والاخبار والموضوعات، والأشياء التي كان تختلقها أجهزة المباحث أو تنتقيها بعناية فائقة من بين الحوادث الجارية، وتضخمها بين العامة، لتصل للناس كالفاكهة المسمومة، فتلهيهم عن قضايا ووقائع أخري أهم