الرقمنة والديكتاتورية كالماشطة والوجه العكر

            

جمال محمد غيطاس

من الأمثال الشعبية البليغة الموحية المثل القائل:” ماذا تفعل الماشطة في الوجه العكر”، والمقصود به أن المرأة الماشطة المسئولة عن التزيين والتجميل، مهما بلغت من مهارات وقدرات، ستقف بلا حيله إذا كان الوجه الذي تحاول تجميله كالحا دميما عكرا خاليا من أي مسحة للجمال.
وتقديري أن هذا المثل ينطبق تمام الانطباق على كل من مشروعات الرقمنة وتقنية المعلومات كأدوات عصرية للتطوير والإصلاح والتنمية من جهة، والديكتاتورية كأسلوب عتيق متخلف للحكم والسياسة والإدارة من جهة ثانية.
بعبارة أخرى، يمكن القول أن كل ما لدي التقنية من قوة وروعة ومهارات وقدرات مبهرة على الإنجاز والكفاءة، لن يجدى نفعا في تجميل وجه الديكتاتورية الكالح الدميم الذي تعكره سوءات بلا حصر… كيف؟
من نيرون روما، الي ستالين روسيا، وهتلر المانيا وبينوشيه شيلي، ونظرائهم في الماضي والحاضر، قامت الديكتاتورية على قوة السلاح والقمع والضغط والترهيب والتخويف والاعتقال والقتل وسحق الحريات والقيم والدوس على القوانين.
 كان من نتيجة ذلك أن الإنسان يفقد إنسانيته في ظل الديكتاتورية، ويعيش ككيان يجمع بين عقلية العبد، وجسد الحيوان الأليف، لأن الديكتاتورية تستخدم سلطة القوة وقوة السلطة المستندة للسلاح، لكي تسرق وتسطو على عقله، وتجرده وتحرمه من ملكات التفكير، والإبداع والمشاركة، والنقد، والمراجعة، وتقييم الأمور، والاعتراض، والمحاسبة، والحق في العدل والكرامة والمساواة مع الآخرين، وتغرز فيه قسرا، وبالخوف والترهيب والتعذيب، صفات الطاعة العمياء، والخنوع الكامل، والقبول بالذل، والرضا بالظلم، واستساغة الإهانة والإجحاف، ولا تترك له من صفاته البشرية، سوى الجوانب البيولوجية المحضة، كأن يري ويسمع وينطق ويشم، ويمشي على قدمين.
ولا ترى الديكتاتورية في جسد الإنسان، سوي ما تراه في أجساد الحيوانات الأليفة، التي تتعطف وتتكرم وتتنازل، وتطعمها وتسقيها وتأويها وتعالجها، ليكون أمرها في النهاية واحد من ثلاث، الأولي أن تساق إلي المعالف لتسمن ثم تحلب وتشفط البانها وخيراتها حتي تجف ضروعها، أو تذبح وتلتهم لحومها وتدبغ جلودها، وتطحن عظامها، والثانية أن تحشر في دولاب عمل، ملؤه الكد والشقاء  القاسي المتواصل، لتكون  أداة من أدوات الإنتاج وتوليد القيمة، التي تخدم الديكتاتورية ومصالحها وشهواتها ورغباتها ، من دون أن يكون لهذه الحيوانات في نفسها أي حق او قيمة، وإذا ما بدا أنها غير مفيدة، اطلقت عليها رصاصة النهاية، التي لا تعرف الرحمة، والثالثة أن تباد في الحال، إذا ما صدر عنها شذوذ أو ملمح اعتراض.
هذه بالضبط سوءات الوجه الكالح الدميم للديكتاتورية، الذي يحاول أصحابها وقادتها ودعاتها والمستفيدين منها تجميله وتزويقه بشتي السبل.
وحينما اتسع استخدام تقنيات المعلومات وعمليات الرقمنة، وباتت لها شعبية واسعة، كأدوات عصرية للتطوير والتحديث وتسهيل حياة الناس، أقبلت عليها الديكتاتورية بشغف واضح، وباتت تستخدمها كطلاء أو أداة تجميل، يمكن من خلالها تزويق وجهها الدميم، فأصبحت مشروعات الرقمنة والتحديث القائم على التقنية اشبه بـ “مولد” منصوب ليل نهار، لا ينقطع الحديث فيه وعنه.
لكن الخبرة العملية أثبتت أن التقنية بكل ما لديها من قدرات ومهارات على التطوير والتحسين، وقفت وتقف عاجزة ولا حول لها ولا قوة أمام الوجه الكالح العكر للديكتاتورية وما يحمله من دمامة.
 السبب في ذلك أن مفتاح فشل أو نجاح عملية التغيير المدعوم بالتقنية والتحول الرقمى هو “السياق” الذي تزرع وتتحرك فيها النظم والحلول والتقنيات، والمقصود بالسياق مجموعة القيم التي يتعين أن تكون  موجودة وحاكمة ومقبولة وتحظي بالاحترام في البيئة المطلوب زراعة التقنية بها، وهي قيم الحرية والعدالة والنزاهة والحوكمة والشفافية والتجرد وانسياب المعلومات والمحاسبة والمساءلة والمساواة، وهذه المجموعة من القيم تعد هي ” اليد العليا” التي يتعين أن تكون موجودة وفاعلة، وتكون هناك الإرادة الكافية لاحترامها كي تنجح التقنية في أداء مهاما.
وحينما ننظر إلي هذه المجموعة من القيم، سنجد أنها تتصادم تصادما كليا تاما مع الديكتاتورية وطبيعتها وآلياتها، ما يعني أن”اليد العليا” الضامنة لنجاح التقنية لا تكون قائمة أو فاعلة،  ومن ثم  تعمل الديكتاتورية على جعل الوضع مقلوبا تماما، فيصبح السياق محكوما لا حاكما، مفعولا به لا فاعلا، ومن ثم تتحول التقنية من وسيلة إلي غاية في حد ذاتها، ومن أداة إلي هدف.
يترتب على ذلك أن  تصبح مشروعات التغيير والتحول مرتعا لكل شيء يخدم الديكتاتورية كسلطة حكم، ولا يحقق التغيير الحقيقي والتنمية المنشودة، وكل نتائجها كثيرا ما تكون ضامرة، وغالبا ما لا تتحقق أصلا.
في نهاية المطاف تقف التقنية عاجزة عن تحقيق ما حاولت الديكتاتورية تسويقه من أحلام وتطلعات، وما جاهدت في إحداثه من ترميم وتجميل لوجهها الدميم، فتنتشر نظم التقنية وتطبيقاتها، كديكور تنموي ظاهري كثيرا فاعلا قليلا، بينما يظل الاضطهاد والعسف والظلم والكبت قائما كما هو.
وقد يتطور الأمر لتصبح التقنية أداة تصنع بها الديكتاتورية لونا جديدا من الاضطهاد، هو الاضطهاد الرقمي والتعذيب الالكتروني، الذي ينشأ إذا امتلكت الحكومات الديكتاتورية أدوات تكنولوجية، من النوع الشامل المتكامل، الذي يمنحها وصولا وسيطرة لحظية، على مجمل بيانات مواطنيها المستخدمة في تسيير حياتهم اليومية، من دون وجود منظومة قانونية وإجرائية قوية للمساءلة والشفافية والحوكمة، فيكون الباب مفتوحا على مصراعيه لتنفيذ عمليات اضطهاد رقمي وتعذيب الكتروني واسعة النطاق ضد الملايين، ليس فقط من لا ترضي عنهم السلطة او تصنفهم ضمن معارضيها، ولكن كل  مواطن تصل اليه يد أي مسئول منحرف في هذا الجهاز أو ذاك، ليمارس ضدهم الاضطهاد الرقمي والتعذيب الالكتروني اللحظي والمتقطع، وفق ما يحلو له، سواء للتلذذ بالتعذيب أو المتاجرة والتربح، لتكون النتيجة حياة ملؤها الجحيم، لكل من يضعه حظه العاثر، في طريق شخص تجتمع لديه قسوة الاستبداد وقوة التكنولوجيا، وانعدام الاخلاق في آن واحد، وهم كثر.
لهذا كله .. فإن السؤال الذي يواجه  من يخططون وينفذون مشروعات تنمية معلوماتية تحت إمرة حكومة ديكتاتورية باطشة هو : ماذا تفعل الماشطة في الوجه العكر؟
كاتب صحفي
خبير تقنية
مؤسس مجلة لغة العصر
 

       

 

 

كل ما لدي التقنية من قوة وروعة ومهارات وقدرات مبهرة على الإنجاز والكفاءة، لن يجدى نفعا في تجميل وجه الديكتاتورية الكالح الدميم الذي تعكره سوءات بلا حصر

 

 

 

حينما اتسع استخدام تقنيات المعلومات وعمليات الرقمنة، وباتت لها شعبية واسعة، كأدوات عصرية للتطوير والتحديث وتسهيل حياة الناس، أقبلت عليها الديكتاتورية بشغف واضح، وباتت تستخدمها كطلاء أو أداة تجميل، يمكن من خلالها تزويق وجهها الدميم،

 

 

 

مجموعة القيم التي يتعين أن تكون  موجودة وحاكمة ومقبولة وتحظي بالاحترام في البيئة المطلوب زراعة التقنية بها، هي قيم الحرية والعدالة والنزاهة والحوكمة والشفافية والتجرد وانسياب المعلومات والمحاسبة والمساءلة والمساواة