التقنية تسرق وجوهكم.. واسألوا بلجراد

جمال محمد غيطاس

علمتم أم لم تعلموا، فإن وجوهكم تسرق ويتم السطو عليها في مكان ما في وقت ما كل يوم، من قبل هذه الجهة أو تلك، لتصبح مادة للمراقبة والفحص والمتاجرة وربما التلاعب بصورة او بأخرى، بعيدا عن القيم والقانون والحقوق الواجبة الحماية والاحترام، ما يعني أن وجوهكم التي تمثل بوابة خصوصيتكم باتت قيد الانتهاك من قبل من قاموا بالسطو عليها غصبا، وإذا لم تكونوا مقتنعين بالأمر فاسألوا بلجراد، أو بعبارة أخرى تعرفوا علي مأساة بلجراد في سرقة الوجوه.
ظاهرة سرقة الوجوه تتم بواسطة تقنية “إف آر تي”،أو “تقنية التعرف على الوجوه، وهي بناء مركب مترامي الأطراف، يبدأ بكاميرات عالية الدقة، مبثوثة بعناية بالميادين والطرقات ومحطات المواصلات وغيرها من أماكن التجمعات العامة، ومربوطة بشبكة معلومات عالية السرعة، متصل بها على الطرف الآخر برمجيات متقدمة، لتحليل الصور ومضاهاتها بملايين الصور الموضوعة في قواعد بيانات عملاقة مرتبطة بذات الشبكة، وكل صورة منها ملحق بها مجموعة البيانات المسئولة عن تحديد هوية صاحب الصورة الملتقطة، كالاسم ومقر السكن والمهنة والنوع وتاريخ الميلاد وبصمات الأصابع والعيون، والوجه نفسه كبصمة تعريف، وتستند تقنية التعرف على الوجوه في عملها للذكاء الاصطناعي وتقنية تعلم الآلة، التي تجعل الشخص المسئول عن المراقبة يعرف هوية كل شخص يمر امام الكاميرا لحظيا أو بعد لحظات من مروره، وهو ما يجعل الأمر اشبه بسرقة أو السطو علي نسخة من وجهك، في كل مرة تمر فيها أمام أي كاميرا من هذه الكاميرات، وبالتالي يمكن لمن يشغل هذه التقنية أن يضعك تحت المراقبة اللصيقة طوال الوقت.
في الأصل، ظهرت هذه التقنية لتسهيل عمل بعض الجهات التي تقدم خدمات قائمة في جوهرها على نظم الهوية، كإدارات الجوازات والهجرة، والتراخيص، ونظم الدخول والخروج من المباني والمؤسسات العامة، وبعض المرافق التعليمية والصحية وغيرها، لكن في الواقع العملي تغير هذا الامر واصبح المستخدم الرئيس لها أجهزة الامن والاستخبارات وإدارات الشرطة المختلفة، كوسيلة للتتبع والرصد والمراقبة، لكشف المشتبه بهم في عمليات بعينها تتطلب ذلك، ثم انحرف الامر ليصبح عمليات مراقبة عشوائية شاملة، لأغراض تستهدف التربح وتسليع البشر، أو تحويلهم لسلع من خلال تتبع نشاطهم اليومي، ثم زاد الانحراف لتستخدم بصورة عنيفة وفجة في إجراءات بوليسية قمعية خارج إطار القانون والأعراف والقيم، بهدي ترسيخ الديكتاتورية والاستبداد، عبر تتبع المعارضين السياسيين والمخالفين في الرأي بغرض قمعهم، وأيضا تتبع أي تحركات أو تجمعات جماهيرية من أي نوع، بغرض اجهاضها وتسهيل عمليات اعتقال المئات وربما الآلاف بكل هدوء وثقة وسرعة استنادا للتعرف علي الوجوه.
بلجراد عاصمة صربيا وصل بها الحال إلي المستوي الأعلى من الانحراف في استخدام تقنية “إف آر تي” لسرقة وجوه عشرات الآلاف من المواطنين علي مدار اللحظة، وقد أورد تحليل مطول بعنوان ” مقاومة صعود التعرف على الوجه” نشرته مجلة نيتشر العلمية الشهيرة، الكثير من التفاصيل عن حالة بلجراد، من بينها أنه في ساحة الجمهورية في بلجراد ، تعلق الكاميرات على شكل قبة بشكل بارز على الحوائط، وتمسح في صمت الأشخاص الذين يمشون عبر الساحة المركزية، وساحة الجمهورية واحدة من 800 موقع في المدينة قالت حكومة صربيا العام الماضي إنها ستراقبها باستخدام كاميرات مجهزة ببرنامج التعرف على الوجه ، تم شراؤه من هواوى الصينية، وقال دانيلو كريفوكابيتش ، الذي يدير منظمة “شير” لحقوق الإنسان بمنطقة البلدة القديمة بالمدينة إن الحكومة لم تسأل سكان بلجراد عما إذا كانوا يريدون الكاميرات، ولم تقدم سوى القليل من التفاصيل عن المشروع، ومن بين المعلومات القليلة التي تم العثور عليها، بيان صحفي صدر في العام 2018 على موقع هواوى وتم حذفه بعد ذلك، وتضمن إن الكاميرات ساعدت الشرطة الصربية في حل العديد من القضايا الجنائية الكبرى وتحسين الأمن في الأحداث الرياضية الكبرى، وأن المخطط يتضمن قيام الحكومة بشراء 8000 كاميرا لاستخدامها في سيارات الشرطة والكاميرات المثبتة علي المباني، ولذلك يوضح مشروع بلجراد المخاوف التي يشعر بها الكثيرون بشأن ظهور أنظمة المراقبة الآلية عن بعد بكاميرات الذكاء الاصطناعي كبديل لكاميرات الفيديو العادية ، وأضاف كريفوكابيتش إنه قلق من أن التكنولوجيا تبدو أكثر ملاءمة للاستخدام بشكل متزايد من قبل حكومة استبدادية لكبح المعارضة السياسية.
في السياق نفسه قال ليوبيشا بوجيتش ، منسق مختبر القياس الاجتماعي الرقمي بجامعة بلجراد ، الذي يدرس تأثيرات الذكاء الاصطناعي على المجتمع إن الوضع قد تغير منذ اضطرابات التسعينيات في حكومة بلجراد، لكن عقيدة الدولة البوليسية والخوف من وكالات الاستخبارات لا تزال قائمة، مما يجعل من صربيا مكانًا غير مناسب لتطبيق كاميرات الذكاء الاصطناعي.
وبلجراد ليست استثناءا في هذا المجال، ولكنها نموذج عالي الوضوح في هذا السياق بين عشرات من المدن المنتشرة في دول العالم المختلفة، وفي مقدمتها الصين وأوروبا والولايات المتحدة، وطبقا للمعلومات التي أوردتها نيتشر فإن هناك 64 دولة حول العالم اعتمدت استخدام منصات المدن الذكية التي تتضمن نشر تقنية التعرف على الوجوه على نطاق واسع، و اشترى العديد منهم كاميراتهم من الشركات الصينية ، وغالبًا ما يتم تشجيعهم على ما يبدو من خلال القروض المدعومة من البنوك الصينية، كما توجد شركات يابانية وروسية وأمريكية وأوروبية تبيع الكاميرات والبرامج.
وفي العاصمة الروسية موسكو، نشرت الحكومة نظام مراقبة بالفيديو على مستوى المدينة باستخدام برنامج قدمته شركة إن تيك لاب للتقنية، ومقرها موسكو، ووصفه رئيس الشركة أليكسي مينين بأنه أكبر نظام في اعالم للتعرف المباشر علي الوجوه، وحول كفاءة النظام قال آرتيم كوكهارينكو المؤسس المشارك للشركة أن وسائل الإعلان في موسكو أشارت إلي أن النظام ساهم في اعتقال مثيري الشغب اثنءا بطولة كأس العالم 2018 حينما كان النظام في وضع الاختبار، كما رصد النظام 200 ممن اخترقوا إجراءات الحجر الصحي خلال الأسابيع الأولى من الإغلاق الكلي لموسكو في بداية جائحة كورونا.
وفي الصين والهند وكوريا الجنوبية، استخدمت الحكومات تقنية التعرف علي الوجوه للمساعدة في تتبع جهات الاتصال وفرض الحجر الصحي ، وفي بريطانيا قال الرئيس التنفيذي لمطار هيثرو بلندن إنه سيجري تجارب على الماسحات الضوئية الحرارية المزودة بكاميرات للتعرف على الوجه لتحديد ناقلات الفيروسات المحتملة، وفي الولايات المتحدة كشفت صحيفة نيويورك تايمز أن شركة برمجيات تدعي “كلير فيو للذكاء الاصطناعي” قد قامت بسحب وتجميع مليارات الصور من مواقع التواصل الاجتماعي ووضعتها في قاعدة بيانات للتعرف علي الوجه، ثم عرضت خدماتها للشرطة داخل وخارج الولايات المتحدة، وعقب الكشف عن هذا العمل طلبت فيس بوك وتويتر ويوتيوب من الشركة التوقف عن سحب الصور من مواقعها، قائلة إن ذلك ينتهك شروط الخدمة الخاصة بها. وقد تم رفع العديد من الدعاوى القضائية ضد الشركة ، بما في ذلك بموجب قانون ولاية إلينوي الذي يسمح للأفراد في تلك الولاية بمقاضاة الشركات التي تحصل على معلوماتها الحيوية – بما في ذلك من الوجه – دون موافقة اصحابها.
أدت هذه التصرفات من جانب الحكومات والشركات إلي ردود فعل من قبل المجتمعات، والمؤسسات المدنية المدافعة عن الحق في الخصوصية وحماية البيانات الشخصية، فظهرت حملة “استعد وجهك”، التي أطلقتها 12 مجموعة من المجموعات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني الأوروبية، وشاركت فيها أكثر من مائة منظمة ومؤسسة في أوروبا وخارجها، وهي حملة تطالب السلطات المحلية والوطنية بالاستماع إلى مجتمعاتهم بشأن المخاطر الجسيمة لاستخدام التعرف على الوجه وتقنيات القياسات الحيوية الأخرى في الأماكن العامة، كما تدعو إلى حظر تشغيل أنظمة المراقبة الجماعية المستندة الي البيانات الحيوية مثل التعرف على الوجه.
تنطلق هذه الحملة ـ وغيرها من الجهود الرافضة لسرقة الوجوه بمعرفة الحكومات وأجهزتها ـ من أن هذه التقنيات تهدد بضياع حقوق الناس في المشاركة في الحياة العامة، دون أن يتم التعامل معهم كمشتبه بهم محتملين أو كموضوعات تجريبية، كما أن الخوارزميات التي تعمل بها هذه التقنيات يمكن ان تخطئ الحكم علي الأشخاص، استنادا الي إيماءة أو تعبير يظهر على الوجه، لينتهي المطاف بالمرء وقد اصبح مشتبها بجريمة بسبب طريقته في اللبس أو بسبب لون بشرته أو لأنه ببساطه حضر احتجاجا أو مر بجوار تجمع لمجموعة من البشر في ميدان عام، والأسوأ من ذلك كله أن يكون وجه محلا للسرقة طوال الوقت دون ان يعرف حتي أنه مراقب ومن يراقبه ولأى سبب وإلى متى.
يلاحظ من الوقائع السابقة أن التحركات القوية ضد التقنية التي تسرق الوجوه، وقعت في بلدان أغلبها يتمتع بقوانين مستقرة، وحكومات منتخبة بطريقة ديمقراطية، ومسئولة أمام مؤسسات برلمانية قوية، والمجال العام بها مفتوح، وزاخر بوسائل إعلام تتمتع بقدر كبير من الحرية، أي هناك قدر من القيود على تغول المؤسسات الأمنية والاستخباراتية بها، ومع ذلك ترى المؤسسات المدافعة عن حقوق الإنسان والحريات العامة والحق في الخصوصية أن تقنية التعرف علي الوجوه يجب تحجيمها أو حتى إيقافها.
وتثير هذه الملاحظة تساؤلات عديدة حول ما يمكن أن يحدث من انحراف في استخدام هذه التقنيات بالبلاد المحكومة بنظم ديكتاتورية مستبدة، تعتمد في إدارتها لبلدانها علي أجهزتها الأمنية والاستخباراتية بالأساس، وتطلق لها العنان في استخدام السلطة، حتي لو تعسفت وعصفت بالقوانين القائمة، فالأغلب الأعم أنه في هذه الحالة ستكون تقنية سرقة الوجوه أو التعرف على الوجوه من التقنيات الأثيرة والمفضلة لديها، ويكون معظم المواطنين عرضه لما تمثله من تهديد للخصوصية والحياة الخاصة.
كاتب صحفي
خبير تقنية
مؤسس مجلة لغة العصر
 

       

 

 

ظاهرة سرقة الوجوه تتم بواسطة تقنية “إف آر تي”،أو “تقنية التعرف على الوجوه، التي تجعل الشخص المسئول عن المراقبة يعرف هوية كل شخص يمر امام الكاميرا لحظيا أو بعد لحظات من مروره، وبالتالي يمكن لمن يشغل هذه التقنية أن يضعك تحت المراقبة اللصيقة طوال الوقت.

 

 

 

بلجراد عاصمة صربيا وصل بها الحال إلي المستوي الأعلى من الانحراف في استخدام تقنية “إف آر تي” لسرقة وجوه عشرات الآلاف من المواطنين علي مدار اللحظة

 

 

 

في العاصمة الروسية موسكو، نشرت الحكومة نظام مراقبة بالفيديو على مستوى المدينة باستخدام برنامج قدمته شركة إن تيك لاب للتقنية، ومقرها موسكو، ووصفه رئيس الشركة بأنه أكبر نظام في اعالم للتعرف المباشر علي الوجوه