جمال محمد غيطاس
إذا كنت صاحب شركة برمجيات، أو مسئولا عن إدارة لتقنية المعلومات والبرمجيات في مؤسسة أو شركة، او مبرمجا، وكنت من الذين يستشرفون المستقبل، ويقيمون له وزنا، ويخططون لأنفسهم ومؤسساتهم علي المدى البعيد، فاعلم ان صناعة البرمجيات برمتها بدأت الدخول في تغيير عميق بطيء، وفي غضون عشر سنوات على الأكثر، ستكون صناعة مختلفة تماما عما هي عليه الآن، او كانت عليه في الماضي، لأن البرمجة ستكون مهمة “روبوتات تورنج البرمجية”، وليس المبرمجين من البشر، وهي روبوتات ستتيح الحصول علي برنامج أو تطبيق بضغطة زر في غضون ساعات، ولو كنت مهتما إليك بعض التفاصيل.
في أوج اشتعال الحرب العالمية الثانية، جلس عالم الحاسبات البريطاني العبقري آلان تورنج في قرية نائية بالريف الإنجليزي، ومعه كوكبة من ألمع الرياضيين والمتخصصين في الحاسبات، وقاموا ببناء آلة من الصفر، تمكنت من حل شفرة “إنجما”، أعقد شفرة أعدها الألمان للمراسلات الحربية، وعلي الرغم من أن آلة تورنج لم يكتب لها الانتشار، إلا أن نظريته في بناء الخوارزميات الرياضية ظلت علامة ملهمة لأجيال عديدة من بعده.
واليوم يستلهم كبار العلماء والباحثين في الذكاء الاصطناعي وذكاء الآلة تجربة آلان تورنج، ويطلقون أسمه على جيل جديد من الروبوتات البرمجية، هو “روبوتات تورنج البرمجية”، التي يجرى تركيبها وتشغيلها داخل الحاسبات وشبكات المعلومات، لتكون في العالم “اللا محسوس”، وليست روبوتات على شكل آلات محسوسة تضم مكونات صلبة وغيرها.
يتوقع أن تشكل روبوتات تورنج أكبر ثورة في عالم البرمجة على الإطلاق، حيث يخطط العلماء والباحثون لتصميمها وانتاجها بالذكاء الاصطناعي، بحيث تكون قادرة على انتاج البناء الكودي الكامل المطلوب لإنشاء وتشغيل برنامج أو تطبيق أو نظام معلومات داخل أي مؤسسة، إما بجهد منفرد من جانب الروبوت، أو بمساعدة بسيطة من المبرمجين والمطورين البشر، ما يعني أن إنتاج برنامج أو تطبيق قد يغدو أمرا لا يتطلب سوى ضغطة زر، ثم دقائق أو ساعات على الأكثر، ليكون لديك برنامج يدير دورة عمل مهمة وطويلة ومعقدة ومملة الإجراءات والمراحل.
وضع الرؤية الخاصة باستخدام الذكاء الاصطناعي في بناء الروبوتات البرمجية القادرة على إنتاج البرامج والتطبيقات والنظم آليا، ثلاثة من كبار محللي الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة بمؤسسة فورستر الاستشارية المتخصصة في بحوث تقنية المعلومات، وهم دييغو لو جوديس ومايك جوالتيري وجيفري هاموند، ونشروا ملخصا لها مطلع هذا الشهر، وهم أيضا من صك مصطلح “روبوتات تورنج” واستخدامه كاسم لهذه النوعية من الروبوتات.
نقطة الانطلاق في هذا النهج هي أن التسارع الرقمي الحالي أدى لزيادة الطلب على تطبيقات وبرمجيات الاعمال داخل المؤسسات والشركات، وعلى الرغم من كل الابتكارات التي قدمت خلال العشرين عاما الماضية لتسهيل بناء تطبيقات الأعمال وتقليل تكلفتها واختصار وقت تطويرها، لا يزال بناء برامج للشركات والمؤسسات أمر صعب ومكلف وبطئ، وتشير الأبحاث الجارية في هذا الصدد أن العالم ينفق ما يصل الي 1.25 تريليون دولار امريكي سنويا على إنتاج برامج المؤسسات، ووجدت جامعة كامبريدج أن المطورين يقضون أكثر من 50٪ من وقتهم في تجميع وبناء الاكواد الخاصة بالبرامج وإصلاح ما بها من أخطار، وهذا الامر وحده يكلف ما يعادل 600 مليار دولار في السنة.
من ناحية أخرى، وجد أن حوالي 70٪ من الجهد المبذول حاليا في تطوير البرمجيات والتطبيقات هو شيء أقرب إلي استخدام مواد اللصق والغراء، في توصيل الأشياء معا، عبر مجموعة من المهام المتكررة وأنماط التصميم المملة والكود المخصص المكتوب، والأسوأ من ذلك، تقوم العديد من الفرق بتطوير نفس الكود مرارًا وتكرارًا، وغالبًا ما يمثل منطق العمل الإبداعي الجهد الأصغر في التطوير، خاصة في مهام مثل انشاء الواجهة الأمامية لواجهة المستخدم والنهاية الخلفية للتطبيقات، وكذلك في طبقة التكامل بين المكونات وبعضها البعض، ويزداد هذا الهدر أكثر عندما تحاول إنشاء برامج مخصصة جديدة ومبتكرة ومميزة.
ولكن مع توفر المزيد من الابتكارات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، تبين أنه بالإمكان استغلال الذكاء الاصطناعي في تنفيذ هذه المهام المتكررة والنمطية، ومن ثم تغيير الطريقة التي تبنى بها التطبيقات والبرامج، بعبارة أخرى بات المجال مفتوحا نحو بناء روبوتات الذكاء الاصطناعي، التي يمكنها أن تكون رفيقا جيدا لمحللي الأعمال والمهندسين المعماريين والمطورين والمختبرين وأفراد العمليات خلال دورة حياة تطوير التطبيق بأكملها، مما يؤدى لزيادة ذكاء وقدرات التحليل الشامل والتصميم والتطوير والاختبار والنشر، ثم الانتقال تلقائيا إلى عصر تطوير البرامج واختبارها ونشرها عبر الروبوتات البرمجية أو بمساعدتها.
حينما نراجع ما يجرى على الساحة في هذا المجال، سنجد أن جذور فكرة روبوتات تورنج البرمجية، تجسدت على نحو آو آخر في العديد من الجهود المبكرة الجارية في مجال الذكاء الاصطناعي، لعل من ابرزها الجهد الذي قدمته شركة أي بي إم، أعرق شركات تقنية المعلومات، حينما قدمت قبل عشرين عاما تقنية “أي بي إم راشينال”، التي أدخلت مفهوم المساعدة الآلية في بناء التطبيقات وهندسة البرمجيات، ثم أدخلت عليها سلسلة من التحسينات حتي انتهت بتقديم منظومة “أي بي إم واطسون” للذكاء الاصطناعي والعمل القائم على المعرفة الإدراكية، وتبعها في هذا السياق العديد من الشركات الأخرى، منها جوجل التي قدمت تقنية ” تي إف ـ كودر TF-Coder” التي تستخدم كأداة مساعدة في كتابة الاكواد التي ينتجها اطار عمل ” تينسور فلو ” لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وفيس بوك التي قدمت تقنية “اروما إم إل Aroma ML ” لإنشاء الكود والإكمال التلقائي، ومشروع مايكروسوفت الذي يحمل اسم ” كود نيت CodeNet”،والذي تجسدت نتائجه العملية في أداة ” جيت هب كوبايلوت GitHub Copilot” للبرمجة الآلية، بالإضافة إلي مبادرات واطر جديدة مفتوحة المصدر منها ” الذكاء الاصطناعي المفتوح OpenAI Gym” ومبادرة ” فاو بال Vowpal”، ويضاف لذلك عشرات من التقنيات والمشروعات التي تنفذها وتقدمها الشركات الناشئة الجديدة.
تمضي هذه الجهود منذ ظهورها في مسار واحد هو تعزيز فكرة إنتاج برامج وتطبيقات الشركات والمؤسسات آليا بأدوات مستندة للذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، وهذا بالضبط ما قام فريق فورستر بتوصيفه وصياغته تحت اسم “روبوتات تورنج البرمجية”، وبحسب الرؤية التي وضعها الفريق فإن روبوتات تورنج ستستند في عملها إلي عدة أسس، منها أن عناصر التصميم الخاصة بالبرنامج أو التطبيق يجب أن تكون بتنسيق موحد، لأن الكود الذي سيتم إنشاؤه، لن يكون قابلاً للقراءة من قبل الإنسان، لأن روبوتات تورنج يمكنها إعادة إنشاء التعليمات البرمجية في أي وقت بسرعة عالية. لذا، كل ما يتعين علينا القيام به هو تغيير المتطلبات والقيود، وهو ما تعمل به تقنية “فويلا” حاليا على سبيل المثال، ومع ذلك، يمكن أن تكون التعليمات البرمجية التي تم إنشاؤها قابلة للقراءة إذا كانت روبوتات تورنج تعمل على كتابة التعليمات البرمجية مع المطورين كما هو الحال مع تقنية جيت هب كوبايلوت من مايكروسوفت.
سيتعين على روبوتات تورنج تلبية العديد من اتفاقيات مستوى الخدمة المحددة مسبقًا والقيود، وتعريف نقاط الامتداد على أنها خدمات في عناصر التصميم إذا كان الرمز المخصص ضروريًا، وستنشئ الروبوتات إصدارات متعددة من تطبيقات الأعمال بناءً على عناصر التصميم ومجموعة أدوات لتقنيات التنفيذ والصفات المعمارية المرغوبة، وبالتالي ستتغير للأبد الطريقة التي يتم بها بناء التطبيقات والبرامج لأي مشروع، ستتغير الأدوار والأدوات والتقنيات المتعلقة بكيفية إنشاء تطبيقات المؤسسة إلى الأبد.
ومن مظاهر التغيير المحتملة ان مصممي ومطوري التطبيقات والبرامج سيستخدمون أدوات لتصميم عناصر التطبيق من البداية إلى النهاية، وهي نقطة انطلاق للمتطلبات، وسيحدد مهندسو تطبيقات المؤسسات التطبيقات المرجعية ومجموعات تكنولوجيا البنية التحتية، على سبيل المثال، أطر عمل واجهة المستخدم، وواجهات برمجة التطبيقات، والخدمات المصغرة، وقواعد البيانات، ليتم بعد ذلك التكويد التلقائي للتطبيقات، وهنا يمكن ان تمثل حزمة أدوات الذكاء الاصطناعي من آي بي إم نقطة انطلاق قوية.
ومن التغييرات كذلك، ان مهندسي الحلول سيحددون صفات بنية التطبيق، أي المتطلبات غير الوظيفية، حول التوافر، والكفاءة، والأمان، والموثوقية، والحمل، وإمكانية الوصول، وما إلى ذلك، لتقوم روبوتات تورنج “بقراءة” و “التعرف” على جميع عناصر التصميم الشامل أعلاه ومتطلبات الجودة، بما في ذلك التطبيقات المرجعية وعناصر تكنولوجيا البنية التحتية، ثم تقوم بالتكويد والبرمجة.
في ضوء ذلك يمكننا القول إن فريق فورستر لم ينشئ رؤية جديدة من العدم، لكنه قدم رصدا عميقا للعديد من الجهود والأدوات التي تمضي في الاتجاه نفسه، وصاغها في إطار فكرى تنظيمي أكثر نضجا، ثم بلورها في فكرة موجزة واضحة، هي الإنتاج الآلي للبرامج والتطبيقات عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، ثم وضع عنوانا أو اسما للفكرة هو ” روبوتات تورنج البرمجية” بما تحمله من معني على النحو السابق الإشارة إليه.
وكل التغييرات المحتملة أو المتوقعة السابقة، تشير إلي أنه في حال نجاح وانتشار روبوتات تورنج على نطاق واسع، ستكون صناعة البرمجة قد تغيرت للأبد، ولم تعد كما نعهدها اليوم أو عهدناها خلال العقود السابقة، وبحسب التقديرات الأولية التي وضعها محللو فورستر، فإن هذه الثورة ستنضج وتكتمل في مدي زمني يتراوح بين خمس وعشر سنوات، لذا علينا انتظارها في العقد المقبل، أي ثلاثينيات القرن 21، وعندها سيكون من المتعين عليك كمبرمج أو مدير للتقنية المعلومات، أن تعمل إما في بناء روبوتات البرمجة، أو تشغيلها والعمل معها وهي تبني البرامج، وكلاهما مختلف جذريا عما يجرى الآن.
كاتب صحفي
|
بناء البرامج ستكون مهمة “روبوتات تورنج البرمجية” بالأساس، وليس المبرمجين من البشر، وهي روبوتات ستتيح الحصول علي برنامج أو تطبيق بضغطة زر في غضون ساعات
حوالي 70٪ من الجهد المبذول حاليا في تطوير البرمجيات والتطبيقات هو شيء أقرب إلي استخدام مواد اللصق والغراء، في توصيل الأشياء معا، عبر مجموعة من المهام المتكررة وأنماط التصميم المملة والكود المخصص المكتوب، وهي امور يمكن للذكاء الاصطناعي الاضطلاع به بسرعة وكفاءة وتكلفة اقل