المعلومة كائن حي له دورة حياة

جمال محمد غيطاس

مع الاعتماد الكثيف على تكنولوجيا المعلومات فى إنجاز الأعمال، وإدارة كافة تفاصيل الحياة، بات العالم يواجه تيارا متدفقا من المعلومات، تتراكم بسرعة على مدار الساعة مولدة فيضانا أو انفجارا رقميا من الصعب السيطرة عليه، وإذا كانت هذه القضية لا تعنى الكثير بالنسبة للأفراد، فهى حيوية ومقلقة وضاغطة للغاية بالنسبة  للمؤسسات والشركات، كالبنوك وشركات النفط والتأمين والمؤسسات الحكومية وغيرها من المنشآت التى تواجه ما يعرف بظاهرة “جبال المعلومات والبيانات الرقمية” التى تتراكم وينمو حجمها بمعدلات سريعة، ويصعب إدارتها وفى الوقت نفسه تحمل المؤسسات أموالا طائلة للحفاظ عليها.
وعلى الرغم من ظهور عشرات المفاهيم والنظم والتكنولوجيات التى اجتهدت فى تقديم حلول، لا يزال الأمر يشكل تحديا صعبا يحفز الكثيرين على تقديم المزيد، ومن بين المفاهيم التي ترفع شعار مواجهة انفجار المعلومات، مفهوم “إدارة دورة حياة المعلومات” كمخرج من المعضلة، وهو مفهوم يتعامل مع الازمة ليس باعتبارها قضية تخزين واسترجاع توكل لمتخصصى تكنولوجيا المعلومات داخل المؤسسات، ولكن باعتبارها قضية تتطلب استراتيجية عامة تتمازج فيها التكنولوجيا مع نظم العمل السائدة بالمؤسسة ومع فكرها الادارى وأهدافها وفلسفتها فى العمل.
يحمل هذا المفهوم أبعادا وتفاصيل متعددة ومتنوعة، ويشكل موجة عالمية جديدة ، تدعمها العديد من المنتديات والمنظمات الدولية والشركات الكبرى ـ وفى مقدمتها ديل إى إم سى وهيليوت باكرد ـ
ومن بين الجوانب العديدة التي يحملها مفهوم “دورة حياة المعلومات” سأركز فيما يلي علي أساسه الفكري والنظري.
لقد نبعت فكرة مفهوم  “إدارة دورة حياة المعلومات” من الاقتناع بأن المعلومات لها دورة حياة تشابه دورة حياة الكائنات الحية، من بشر ونباتات وحيوانات، فالكائنات الحية لا تخلق صدفة أو تعيش فى فراغ، بل تخلق لحكمة وتعيش في بيئة ولها دورة حياة تطول أو تقصر حسبما يشاء لها الخالق، وتمر فى دورة حياتها  بمراحل مختلفة تتغير فيها أدوارها وقيمتها النسبية وتفاعلاتها مع عناصر البيئة المحيطة من حولها إلى أن تصل لمرحلة الشيخوخة التى تنتهى بإحالتها للمعاش ثم انهاء دورة حياتها بالموت والفناء.
وبالمثل فإن المعلومات لا تأتى صدفة أو تنشأ فى فراغ، بل يتم توليدها لحكمة وهدف فى بيئة مناسبة لها تماما ولما ولدت من أجله، وتمر بدورة حياة تطول أو تقصر حسبما تقتضى ظروفها وتتغير قيمتها وتتبدل أدوارها عبر دورة حياتها، وتمر بفترات ازدهار ترتقى فيها سلم الاولويات لدى منتجيها ومستخدميها، وفترات تراجع يكون من المتعين خلالها أن تتقهقر الى الصفوف الخلفية وتفسح المجال لغيرها، ثم يأتى عليها وقت يتحتم أن تنزوى بعيدا أو تحال للاستيداع والحفظ، وفى وقت ما تنعدم قيمتها وتصبح عبئا على أصحابها فيتقرر محوها وإنهاء دورة حياتها.
والمقصود بالمعلومات هنا هو إى بيانات يتم تبادلها أو التعبير عنها أو يتم تمثيلها في سياق ما، مثل برنامج أو تطبيق أو عملية معالجة، وقد تكون المعلومات فى شكل سجل لمعاملة مالية أو بريد إلكتروني أو مستند أو وثيقة أو فيديو أو أي نوع من أنواع البيانات الرقمية الأخرى.
انطلاقا من هذه الفكرة البسيطة بدأ أصحاب هذا الاتجاه يخططون لتشييد منظومة متكاملة من المفاهيم والأدوات والسياسات والنظم والتكنولوجيات والمنتجات والبرامج الجديدة التى يمكن تقديمها للمؤسسات كحزمة متكاملة ومترابطة يمكن تطبيقها على ( جبال المعلومات الرقمية) الموجودة لديها والتى يتزايد حجمها بسرعات عالية وبدأت العقول تحار فى كيفية إدارتها والسيطرة عليها، بحيث تقدم هذه المنظومة منهجا واقعيا وفعالا وسريعا وشاملا يستطيع فى وقت قياسى وبتكلفة معقولة جدا أن يبنى لكل معلومة فى هذه ( الجبال الرقمية) دورة حياة  (رقمية) تحدد مكان تخزينها وكيفية الوصول إليها ودرجة أهميتها، ونمط تغير قيمتها عبر الزمن ، وتوقيتات تنقلها أو تحريكها فى سلم الاولويات ونظام ترحيلها شيئا فشيئا من صدارة نظام العمل إلى المستويات الادنى فى الأهمية حتى النقل للأرشيف ثم محوها وإزالتها، وفى الوقت نفسه تكون دورة الحياة 
غنية بالمرونة والتنوع والقدرة على التفاعل التلقائى مع بيئة العمل والمعلومات الاخرى المحيطة بها حسب طبيعة التطور فى دورة حياتها.
وللتوضيح فإنه لو كانت هناك شركة اتصالات ـ مثلا ـ تعانى من مشكلة تضخم البيانات والمعلومات وأجرت دراسات ووجدت أن المشكلات المتعلقة بسداد الفواتير تحدث في أول 60 يوماً تالية على إصدار الفواتير، ثم بعد ذلك تقلّ تلك المشكلات إلى النصف ثم تختفي تقريباً بعد نحو عام، فإنه مع تطبيق مفهوم إدارة دورة حياة المعلومات يمكن لهذه الشركة وضع المعلومات الخاصة بالفواتير فى نظم التخزين ذات الاداء الأعلى والاقرب للتناول خلال الشهرين الأولين، وبعد ذلك تنقلها تلقائيا للخلف لنظام تخزين أقل فى التكلفة والأداء بعيدا عن الواجهة، وبعد فترة اخرى تقوم بترحيلها الى الارشيف الاكثر قلة فى تكلفة وأدنى فى الأهمية، وفيما بعد تقوم بإلغائها كلية حينما تختفى مبررات التعامل معها وتنقضى الفترة القانونية لوجودها.
هذه الفكرة البسيطة تقودنا مباشرة إلى القول بأن مفهوم إدارة دورة حياة المعلومات يتطلب من الوهلة الأولى مدخلا مختلفا للتعامل مع قضية تخزين وإدارة البيانات، لأن السعى لإقامة دورة حياة لكل معلومة يعنى تلقائيا أن القرار لم يعد قرار مسئولى إدارة  تكنولوجيا المعلومات فى المؤسسة أو مسئولى نظم التخزين، ولكنه قرار أصحاب المعلومات ومستخدميها بالأساس داخل المؤسسة، باعتبار أنهم الذين ينتجون المعلومات ويدفعون بها لنظم التخزين ثم يعودون لاستخدامها بنمط أستخدام معين، وما على المتخصصين سوى تحويل هذه الانماط من الاستخدام إلى أوامر ومعايير فى التخزين.
ولأن كل شخص فى المؤسسة أو المنشأة يساهم بدور ما فى إنتاج وتوليد واستخدام المعلومات طبقا للمهام الموكلة إليه بحكم وظيفته، فبالتالى فإن كل العاملين بالشركة والمؤسسة ـ وليس متخصصو تكنولوجيا المعلومات فقط ـ مدعوون تلقائيا للمشاركة منذ البداية فى وضع لمساته على شكل دورة الحياة المزمع إنشاؤها للمعلومات، الأمر الذى يجعل تطبيق المفهوم مرتبطا بشدة بفلسفة العمل بالمؤسسة وأهدافها ونظمها الادارية والانتاجية ودورات العمل بداخلها ودوراتها المستندية، وعلاقاتها مع شركائها فى العمل بالخارج وعلاقاتها مع زبائنها وعملائها أو من تقدم لهم الخدمة أو المنتج، واللوائح والقوانين التى تنظم عملها ويكون لها تأثير أو ارتباط ما بكيفية إدارة المعلومات، ويتطلب غالبا إعادة هندسة وتغيير فى نظم العمل بدرجة أو بأخرى لتصبح مهيأة لتقبل المفهوم الجديد.
ولو أخذنا أنماط التخزين السائدة حاليا كمثال سنجد أن معظم المؤسسات تخزن جزءاً من بياناتها ومعلوماتها على أشرطة، ومعلومات أخرى على أقراص مدمجة، وتفاصيل عملائها في قواعد بيانات مختلفة، ومراسلاتها المهمة في أرشيف البريد الإلكتروني، بشكل يتوزع على إدارات مختلفة ويرتبط بعمليات إدارية وتنظيمية سائدة داخل المؤسسة عادة ما تكرس مفاهيم التجزئة وانغلاق الادارات المختلفة على نفسها بما تملكه من معلومات وبيانات، الامر الذى يدفع الامور نحو تكرار الكثير من البيانات بصور مختلفة فى أماكن مختلفة، وفى المقابل فإن مفهوم إدارة دورة حياة المعلومة  يقتضى تغيير هذه الاوضاع الإدارية وما يرتبط بها من أنماط سائدة فى تخزين وإدارة البيانات، بحيث يتم بناء نمط جديد من العلاقات الادارية والتنظيمية فيما بين الادارات وبعضها البعض بالتزامن مع توحيد نظم التخزين.
فى ضوء ذلك يعرف دعاة هذا الاتجاه إدارة دورة حياة المعلومات بأنها “مزيج متكامل من السياسات والعمليات والممارسات الإدارية والأدوات المختلفة، يستخدم في الحصول على أفضل قيمة من المعلومات المتاحة بدءًا من لحظة نشأتها وحتى التخلص منها بأفضل بنية أساسية لتكنولوجيا المعلومات بأقل تكلفة ممكنة”.
 والخلاصة أن هذا التعريف يهتم بعدة نقاط اساسية، أولها أن إدارة دورة حياة المعلومات ليست تكنولوجيا ولكنها خليط من العمليات والتكنولوجيات التى تحدد كيف تتدفق أو تمر البيانات عبر بيئة ما، وثانيها أن التكلفة عامل مهم للغاية، لذلك فهو يربط بين الحصول على قيمة اقتصادية للمعلومات وبين تحمل اقل قدر من التكلفة فى انشاء البنية الاساسية المعلوماتية المطلوبة، ليس فى مجال تخزين وإدارة المعلومات فقط ولكن فى مراحل المعالجة والنقل والتوزيع وغيرها، والثالثة أنه يمزج بشكل كامل بين الأهداف التى تضعها المؤسسة لنفسها وبين البنية الاساسية المعلوماتية لديها، مما يستدعى ترجمة الاهداف إلى سياسات تنفذ داخل الشبكات والحاسبات وأوعية التخزين وغيرها من مكونات البنية المعلوماتية.
كاتب صحفي
خبير تقنية
مؤسس مجلة لغة العصر
 

       

 

 

تواجه المؤسسات والشركات، كالبنوك وشركات النفط والتأمين والمؤسسات الحكومية وغيرها ما يعرف بظاهرة “جبال المعلومات والبيانات الرقمية” التى تتراكم وينمو حجمها بمعدلات سريعة، ويصعب إدارتها وفى الوقت نفسه تحمل المؤسسات أموالا طائلة للحفاظ عليها.

 

 

 

 “إدارة دورة حياة المعلومات”  مفهوم يتعامل مع الازمة ليس باعتبارها قضية تخزين واسترجاع توكل لمتخصصي تكنولوجيا المعلومات داخل المؤسسات، ولكن باعتبارها قضية تتطلب استراتيجية عامة تتمازج فيها التكنولوجيا مع نظم العمل السائدة بالمؤسسة ومع فكرها الإداري وأهدافها وفلسفتها فى العمل.

 

 

 

المعلومات لا تأتى صدفة أو تنشأ فى فراغ، بل يتم توليدها لحكمة وهدف فى بيئة مناسبة لها تماما ولما ولدت من أجله، وتمر بدورة حياة تطول أو تقصر حسبما تقتضى ظروفها وتتغير قيمتها وتتبدل أدوارها عبر دورة حياتها، وتمر بفترات ازدهار ترتقى فيها سلم الاولويات لدى منتجيها ومستخدميها، وفترات تنعدم قيمتها وتصبح عبئا على أصحابها فيتقرر محوها وإنهاء دورة حياتها.