عنف المعلومات مفهومه ومظاهره واثاره

جمال محمد غيطاس

ابسط تعريف للعنف يقول أنه ” كل استخدام للقوه بطريقة غير شرعية وغير مبررة من قبل طرف ضد آخر ينجم عنه أذى أو ضرر بشكل دائم ومستمر أو لمرة واحدة”.
وحاليا، أصبحت المعلومات والمعرفة أكبر أشكال القوة تأثيرا وأسهلها استخداما وأوسعها انتشارا، وبالتبعية أصبحت المعلومات جاهزة دوما لأن تكون من أكبر أدوات ممارسة العنف وأسهلها استخداما وأوسعها انتشارا، ولذلك إذا لم يكن المجتمع مزودا بإطار تشريعي وقانوني قوى وواضح ويحظى بالاحترام تنشأ على الفور فجوة قانونية وتشريعية، تجعل من السهل على أى طرف أن يحول المعلومات لأداة عنف مجتمعي لا حدود لها كما ونوعا وتأثيرا، ومع اتساع الفجوة وتلاحق فصول ثورة المعلومات يزداد عنف المعلومات بالمجتمع فيحيله إلى كيان يعانى الاحتقان والهشاشة وعدم الاستقرار.
في هذا السياق، نحتاج في البداية إلى تحرير وتوضيح لمصطلح عنف المعلومات، وهنا يمكننا القول أنه منذ بدء الخليقة وحتى اليوم اعتمدت حياة الإنسان على توليد وتداول وتوظيف المعلومات بشكل أو بآخر، فكل قراراته بدءا بقرار تحديد موعد استيقاظه في الصباح إلى تحديد موعد نومه ليلا هي قرارات تتغذى على المعلومات، سواء كان الإنسان يعي ذلك أم لا، فهو حينما يقرر الاستيقاظ في السادسة مثلا لابد أن تكون لديه معلومة تبرر له اتخاذ هذا التوقيت موعدا للاستيقاظ كارتباطه بوسيلة مواصلات تنقله للعمل، وحينما يقرر الذهاب للنوم لابد أن يكون لديه معلومة تؤكد له أنه لم يعد لديه ما يجعله مستيقظا، وهكذا الحال في بقية تفاصيل حياته وعلاقاته وتفاعلاته مع محيطه المجتمعي سواء على مدار اليوم أو الشهر أو السنة أو العمر كله، ومن هنا فإن الإنسان الفرد يعيش دوما وسط فيض من المعلومات تحدد له كل تصرفاته ويتخذ على أساسها كل قراراته.
وإذا انتقلنا إلى المجتمع الواسع لا نجد جوهر الصورة مختلفا، فالمجتمع الكبير هو في النهاية مجموعات من الأفراد، وبالتالي فجميع قرارات المجتمع وكل تفاصيل الحياة فيه تتغذى طوال الوقت على تيارات متنوعة من المعلومات التي تتدفق في أوصاله بلا انقطاع بوسائل وقنوات مختلفة، فتتوازى أحيانا وتتقاطع أحيانا، لكنها في النهاية تتجمع لتنشئ ما يمكن أن نطلق عليه ” المحتوى المعلوماتي المجتمعي المشترك” الذى يضم التفاصيل الكاملة لحياة الأفراد والجماعات والمؤسسات.
وعمليا لا يتجمع المحتوى المعلوماتي المجتمعي المشترك في نقطة واحدة، بل يتفرع في اتجاهات مختلفة ليكون محتويات معلوماتية مجتمعية فرعية متنوعة،كل منها يتعلق بقطاع من المجتمع أو فئة من فئاته أو نشاط من أنشطته، ووفقا لهذا المنظور يمكن تحديد “التنوعيات” الفرعية للمحتوى المعلوماتي المجتمعي العام فيما يلى:
ـ المحتوى المعلوماتي العسكري الأمني: ويضم المعلومات الخاصة بالجيوش وتنظيمها وهيكلها الداخلي وعدد أفرادها ومؤهلاتهم التدريبية والعملية ومستوى روحهم المعنوية ونوعية ما لديها من أسلحة وعتاد وأوضاعها وتوزيعاتها على الأرض وخططها العملياتية والمستقبلية وأساليبها في الدفاع والهجوم، كما تضم المعلومات التي تتعلق بالأمن الداخلي للمجتمع لدى أجهزة الشرطة والمباحث والمخابرات وغيرها من الأجهزة الأمنية.
ـ المحتوى المعلوماتي الاجتماعي: ويضم المعلومات الخاصة ببنية المجتمع وتركيبه الاجتماعي والطبقي واتجاهاته المختلفة ومستويات التعليم والفقر والأوضاع الصحية وحركة المجتمع المدني وأوضاع الأقليات الدينية والإثنية والقضايا ذات الحساسية المجتمعية التي من شأنها إذكاء الصراعات فيما بين فئاته المختلفة.
ـ المحتوى المعلوماتي الفكري والسياسي والإعلامي: ويضم المعلومات الخاصة بالنخب السياسية والفكرية المؤثرة في المجتمع كالقيادة السياسية وكبار العاملين في الحكومة من الوزراء ومساعديهم وقادة وأعضاء الأحزاب والحركات السياسية المختلفة سواء من في الحكم أو المعارضة بخلاف الكتاب والمفكرين والإعلاميين والفنانين وما تقدمه وسائل الإعلام من معلومات وبيانات.
ـ المحتوى المعلوماتي الاقتصادي والخدمي: ويضم المعلومات المتعلقة بالأوضاع الاقتصادية والخدمية من زراعة وتجارة وتصنيع وتعليم وصحة وبنوك، ومنها على سبيل المثال لا الحصر معلومات الجمارك وهى مصدر للحركة التجارية على مستوى الدولة، والمعلومات المالية بسوق المال والبورصة والبنوك ووزارة المالية، ومعلومات البناء والإسكان والمحليات التي تتيح معرفة حركة البناء العمراني، ومعلومات السجل التجاري ومصلحة الشركات وهيئة الاستثمار والمعلومات التجارية بالمصالح الحكومية والوزارات وشركات قطاع الأعمال العام.
ـ المحتوى المعلوماتي العلمي والبحثي: ويضم المعلومات المتعلقة بالبحوث الأكاديمية وأنشطة التطوير والابتكار والاختراع في شتى القطاعات والمجالات وما تضمه من نظريات و أفكار وتكنولوجيات وأساليب وأدوات جديدة في العمل والإنتاج والتفكير وأيضا الكوادر البشرية من الباحثين والعلماء وأوضاعهم العلمية والمعيشية وطموحاتهم واتجاهاتهم.
انطلاقا من ذلك يمكن القول أن كل القرارات التي تتخذ على مستوى الفرد أو المؤسسة أو المجتمع طوال اليوم ترتبط ارتباطا وثيقا بجودة وسلامة ما يستخدم فيها من معلومات وتوقيتات الحصول على هذه المعلومات والوعى بكيفية توظيفها والحفاظ على سلامتها، والمعلومات في هذا الصدد أشبه (بالروح) التي تجعل من الإنسان الفرد والمؤسسة والمجتمع ككل كيانات نابضة بالحياة، ومن هنا فإن هذا المحتوى المعلوماتي هو نوع من الأصول والممتلكات العامة، وأى فعل يحدث ضررا بجودته أو أمنه أو سلامته أو يحجبه ويعوق وصوله لمستحقيه هو شكل من أشكال العنف، لأنه فعل سيتولد عنه بالضرورة أذى لفرد أو مجموعة من الأفراد أو قطاع من المجتمع أو المجتمع بأسره.
ننتهى من ذلك إلى أن عنف المعلومات هو “كل استخدام للقوة بطريقة غير شرعية وغير مبررة من قبل طرف ما ـ فرد كان او مؤسسة أو حكومة أو دولة ـ ومن شأنه أن يحجب أو يتلاعب أو يضر بسلامة أو جودة أو صحة أو إتاحة المعلومات أو توقيتات الوصول إليها ويقع بسببه أذى أو ضرر بشكل دائم ومستمر أو لمرة واحدة على من يحتاج هذه المعلومات أو يستخدمها في اتخاذ قرار أو ويستفيد منها في قضاء حاجة”
والمقصود بالقوة هنا القوة الناجمة عن امتلاك المعلومات والقدرة على حجبها كما هو الحال في الجهات المالكة للمعلومات وقواعد بياناتها داخل الدول والحكومات، وقوة توليد المعلومات ونشرها كما هو الحال مع أجهزة الإعلام وغيرها، وقوة التلاعب في المعلومات وتخريبها وسرقتها وإفسادها كما هو الحال مع محترفى جرائم المعلومات.
وقياسا على هذا التعريف فإن صور عنف المعلومات تتسع لتشمل طيفا واسعا من الممارسات سواء على نطاق المجتمع العام أو على نطاق قطاع المعلومات بشكل خاص.
فعلى نطاق المجتمع العام يعتبر ـ مثلا ـ التلاعب في معلومات وبيانات جداول الناخبين وأصواتهم بالانتخابات عنفا معلوماتيا مفرطا يقوض أركان المستقبل، وحجب المعلومات الخاصة بمرتكبي الكوارث الكبرى عنفا معلوماتيا لا يعرف الرحمة ويغل يد العدالة ويفقد الجميع الثقة في الجميع، وضرب أسوار من الحماية على المعلومات المتعلقة بالفساد التي يتعين أن تظهر وتصل لمن يحتاجها من الجهات المختصة عنفا معلوماتيا ينشر  بالمجتمع سرطانا لا يقاوم، وانعدام الشفافية في خصخصة الممتلكات العامة وتوزيع الأراضي وغيرها من صور توزيع الثروة عنفا معلوماتيا يقسو على حقوق الفقراء وتترنح تحت ضرباته مبادئ المساواة والعدل الاجتماعي، والفيض الإعلامي الدعائي الاحتفالي في السياسة والاقتصاد والفن وغيرها، عنفا معلوماتيا يغرق عقول المتلقين بمعلومات زائدة باطشة، تفقدها القدرة على تحديد الاتجاه، والصراخ الإعلامي المضاد القائم على محتوى سماعي وإشاعات غير موثقة عنفا معلوماتيا أهوج، يهيج نسيج المجتمع جاعلا بعضه في مرمى لسعات بعضه الآخر بشكل عبثي غير مبرر.
وعلى نطاق صناعة أو قطاع المعلومات ـ وعلى سبيل المثال لا الحصر ـ يعتبر انتقال بيانات مشتركي المحمول إلى شركات الدعاية التي تغرقهم بإعلانات لا حصر لها عنفا معلوماتيا يستحق المساءلة، وإغراق صناديق البريد الإلكتروني ببريد تطفلي عنفا معلوماتيا يكلف ضحاياه ملايين الجنيهات، وتخريب المواقع وتعطيلها عنفا معلوماتيا يربك أعمال المؤسسات، والتلاعب بحسابات البنوك وسرقة بطاقات الائتمان والسطو عليها عنفا معلوماتيا ينبغي أن يقود مرتكبيه وراء القضبان، والسطو على الملكية الفكرية للآخرين من برمجيات وتطبيقات وقواعد بيانات عنفا معلوماتيا بالغ الخطورة يقتل صناعة البرمجيات المحلية قبل أن تبدأ ويفقد الثقة في مناخ الاستثمار المحلى، والتلصص غير المشروع على المراسلات الالكترونية والمكالمات التليفونية عنفا معلوماتيا ينتهك الخصوصية، والرقابة والملاحقة التي تتعرض لها بعض مواقع الانترنت بصورة سرية أو علنية عنفا معلوماتيا يتصادم مع مبادئ حرية الرأي والتعبير.
ومن يتأمل مفهوم العنف في صورته العامة، يمكنه أن يستنتج بسهولة أن العديد من المجتمعات تقع منذ عقود ولا تزال تحت وطأة عنف معلوماتي مفرط يكتوى بناره الجميع، فعنف المعلومات يشوب علاقة الدولة بالأفراد، وعلاقة الأفراد بالأفراد ،وعلاقة المؤسسات بالمؤسسات، وعلاقة المؤسسات بالأفراد.
ومن الأسباب المؤدية لذلك ان مثل هذه المجتمعات لديها فجوة تشريعية، أو نقص تشريعي، يترتب عليها الافتقار إلي إطار  قانوني ناضج بالدرجة التي تحقق انضباطا معقولا في استخدام المعلومات، يحول دون العنف في استخدامها، والأخطر في الأمر أن هذه الفجوة التشريعية تتجه للاتساع والتعمق بشكل متسارع مع الانفجار المتزايد لثورة المعلومات عالميا والجهود الحثيثة الجارية وطنيا للتحول إلى مجتمع المعلومات بآلياته المختلفة حتى تحول عنف المعلومات في بعض الأحيان إلى إرهاب معلوماتي، ولست في حاجة إلي القول بأن المجتمعات التي تترك الفجوة التشريعية تتسع، تسمح في الوقت نفسه لعنف المعلومات بالاستشراء، ليكتوي به المجتمع ويحتقن وتزداد هشاشته ويضعف استقراره.
كاتب صحفي
خبير تقنية
مؤسس مجلة لغة العصر
 

       

 

 

عنف المعلومات هو “كل استخدام للقوة بطريقة غير شرعية وغير مبررة من قبل طرف ما ـ فرد كان او مؤسسة أو حكومة أو دولة ـ ومن شأنه أن يحجب أو يتلاعب أو يضر بسلامة أو جودة أو صحة أو إتاحة المعلومات أو توقيتات الوصول إليها ويقع بسببه أذى أو ضرر بشكل دائم ومستمر أو لمرة واحدة على من يحتاج هذه المعلومات أو يستخدمها في اتخاذ قرار أو ويستفيد منها في قضاء حاجة”

 

 

 

حجب المعلومات الخاصة بمرتكبي الكوارث الكبرى عنف معلومات لا يعرف الرحمة ويغل يد العدالة ويفقد الجميع الثقة في الجميع، وضرب أسوار من الحماية على المعلومات المتعلقة بالفساد التي يتعين أن تظهر وتصل لمن يحتاجها من الجهات المختصة عنف معلوماتي ينشر  بالمجتمع سرطانا لا يقاوم

 

 

 

إذا لم يكن المجتمع مزودا بإطار تشريعي وقانوني قوى وواضح ويحظى بالاحترام تنشأ على الفور فجوة قانونية وتشريعية، تجعل من السهل على أى طرف أن يحول المعلومات لأداة عنف مجتمعي لا حدود لها كما ونوعا وتأثيرا