جمال محمد غيطاس
قائمة المحتويات
يوم الثلاثاء قبل الماضي ـ الموافق 18 مايو ـ سمعت صفارات سيارات الشرطة وهي تهرع قاصدة منزل محدد بمقاطعة هاريس بولاية تكساس الأمريكية، وتلقي القبض علي شخصين مشتبه بهم من داخل المنزل، وتكتشف مزرعة صغيرة لنبات الماريجوانا المخدر داخل المنزل، كما توصلت لشخص مصاب بطلق ناري بعد تعرضه لإطلاق النار بأقل من 20 دقيقة، ووصلت الشرطة إلي المكان من دون بلاغ بالحادث من أحد، لأنها ببساطة من تكن تدري شيئا عن الواقعة علي الإطلاق قبل 20 دقيقة من مداهمة المنزل، وجاءت العملية الناجحة برمتها بسبب نظام رصد وتحديد مواقع إطلاق النار فور إطلاقها، والمعروف باسم ” شوت سبوتر”، والذي بدأ نشره منذ 2017 ببعض المدن الأمريكية، ويعد مع مجموعة غيره من التقنيات المتطورة تجسيدا عمليا لما بات يعرف بـ “الشرطة الدقيقة”.
فلسفة الشرطة الدقيقة، توجه جديد يمثل أحدث حلقة في الدعم الذي تقدمه صناعة تقنية المعلومات لجهات إنفاذ القانون، وجهات ومؤسسات الدفاع عن الحقوق والحريات المدنية وحقوق الإنسان، وكل المؤسسات الراغبة في عمل امني احترافي متقن، يضمن مكافحة الجريمة والعنف وحماية الحقوق والكرامة الإنسانية في آن معا.
يمكننا ان نتعرف علي مفهوم الشرطة الدقيقة عن قرب، من خلال استعراض خلفيات الواقعة المشار إليها، فما حدث فعليا أن احد المشتبه بهم اطلق النار علي المجني عليه في مكان خاضع لتغطية ومراقبة نظام ” شوت سبوتر”، وهو النظام الذي التقط صوت الطلقة، وحدد مكان اطلاقها في مساحة قدرها خمسة أمتار مربعة، ولأنه مربوط بغرفة العمليات في مركز شرطة الولاية، ظهرت أمام ضابط العمليات إحداثيات موقع إطلاق النار بكل دقة، وبعد الإطلاق بثوان معدودة، فقام ضابط العمليات بدوره بتوجيه الدوريات التي تعمل في نطاق المنطقة إلي مكان إطلاق النار، فتوجهت السيارات للمكان، وفي غضون أقل من 20 دقيقة، كان قد تم مداهمة المنزل، والقبض علي اثنين من المشتبه بهم، والمصاب الذي تعرض لإطلاق النار، فضلا عن الكشف عن مزرعة لنبات الماريجوانا، وكميات من المخدرات الأخرى بالمنزل.
نظام شوت سبوتر تنتجه شركة أمريكية بالاسم نفسه، وهو قائم علي تقنية هدفها توفير إجابة لحظية سريعة دقيقة على بعض من أهم الأسئلة التي سرعان ما تتبادر إلي الذهن بعد سماع الدوي وهى: من يطلق الرصاص؟ وأين؟ ومتى بالضبط؟.
يعمل نظام “شوت سبوتر” باعتباره أذن لاقطة للأصوات، ترهف السمع طوال الوقت، وتسجل في التو واللحظة مكان وتوقيت إطلاق النار ودوي الرصاص بأي مكان يعمل به، في نطاق يصل الى 20 ميل مربع كحد أقصي، وتنقل هذه المعلومات لحظيا لمشغليها، سواء أجهزة الأمن أو غيرها.
من الناحية التقنية … لا يمكن وصف ” شوت سبوتر” بانه نظام معلومات متكامل، قادر على تقديم خدمة رصد وتسجيل أصوات إطلاق الرصاص والإبلاغ عنها، بل هي “العمود الفقري” لنظام من هذا النوع، يتكامل مع بنية تحتية متنوعة المكونات والأدوات، وهذا العمود الفقري عبارة عن اجهزة استشعار “مجسات” دقيقة الحجم، تتضمن كل ما يجعلها حاسب متكامل الأركان، فهى تحتوي على معالج دقيق ووحدة ذاكرة ووحدة تخزين بيانات ومعلومات، ونظام تشغيل، فضلا عن جهاز الاستشعار أو المجس نفسه، وتطبيق لالتقاط صوت او أصوات الرصاص وإطلاق النار وتمييزه عن غيره من الاصوات الاخرى، فضلا عن شريحتين الكترونيتين اخريين، إحداهما لالتقاط إشارة نظام تحديد المواقع العالمي “جي بي اس”، والشريحة الثانية من النوع المخصص لتحقيق الاتصال والربط الدائم بين جهاز وآخر أو آلة وأخري عبر الشبكات المحمولة.
هكذا … فإن كل مجس أو جهاز استشعار يعتبر في حد ذاته مكون متكامل، يرتبط مع غيره من اجهزة الاستشعار الدقيقة الأخرى، ليشكل الجميع شبكة يديرها مركز تحكم، يعمل بنظام معلومات مركزي، يشكل الجزء الأهم أو العقل العام لتقنية “شوت سبوتر” ككل، ليقوم بتلقي وتحليل البيانات الواردة من مختلف المجسات المرتبطة بالشبكة، وتحديد أماكن وتوقيتات الإطلاق، ثم ترجمة كل ذلك في صورة تنبيهات أو رسائل أو معلومات، وبثها لمستخدميها وطالبيها لحظيا.
عند التطبيق العملي، يتم نشر عدد كبير من المجسات بتكوينها السابق في أماكن منتقاه جيدا داخل مساحة من الارض، بحيث تشكل في النهاية شبكة متكاملة، تعمل بتناغم مع بعضها البعض، ويصبح كل مجس مجرد نقطة أو “عقدة” رصد وإرسال لأصوات إطلاق النار.
وأماكن النشر قد تكون لمبات الإنارة المثبتة على أعمدة في الشوارع، وعلى اسطح المنازل، وفى زوايا واركان الميادين، وفوق الاشجار وغيرها، ويتم وضعها بطريقة تخفيها عن العيون والعبث، وتحصل على الطاقة اللازمة لها من أقرب مصدر للكهرباء، كأعمدة الإنارة، أو البطاريات أو الطاقة الشمسية.
ولو كان نظام “شوت سبوتر” عاملا ونشطا في دائرة قطرها خمسة كيلومترات، فمعنى ذلك أن كل صوت رصاص يحدث في هذه الدائرة يتم رصده وتحليله وانتاج تقرير حوله لحظيا، وتوصيلة للطرف المستفيد بصورة تحدد بدقة من أين انطلق أو ينطلق الرصاص، ومتى بالضبط، ويمكن أن يتم نقل هذه التقارير اللحظية إلى تطبيقات تعمل على الهواتف الذكية، لتعرض لأصحابها الموقف أولا بأول، بل ويستطيع التطبيق على المحمول ـ أو على الحاسبات الشخصية أو المكتبية في غرف المراقبة والتحكم ـ عرض تقارير “شوت سبوتر” بصورة رسومية تفاعلية ملونة، تظهر فيها المبانى والطرقات والشوارع المختلفة، وتحدد مكان الإطلاق على مساحة لا تزيد على 10 أقدام مربعة.
طبقا لما أوردته الشركة المنتجة فإن هذا النظام مجهزة للعمل مع المصابيح الذكية التي تنتجها شركة جنرال الكتريك وتستخدم مع أعمدة الإنارة في الشوارع، وترصد المجسات مستويات اخرى من الضوضاء، وفى المستقبل سوف ترصد وتكتشف اشياء مثل تكسير الزجاج، وحوادث اصطدام السيارات، ورذاذ الطلاء وخلافه.
والآن هي قيد التشغيل الفعلي في اكثر من 90 مدينة امريكية، من بينها مدن كبرى مثل شيكاغو ونيويورك وبوسطن وسان فرانسيسكو وواشنطن دي سي، بالإضافة الى مدن متوسطة الحجم حول العالم، واخيرا تم الاعلان عن تغطية اوسع في سبع مدن، منها ميامي وسان دييجو وسان انطونيو وكيب تاون، فضلا عن مدينة برمنجهام بولاية الاباما، والتى تستخدم هذه التقنية في مساحة تغطية وصلت الى ثمانية اميال مربعة في البداية، وتم التوسع فيها مؤخرا لتغطى 20 ميل مربع.
فى هذه المدن … تنتشر مجسات شوت سبوتر في مصابيح الانارة بالشوارع، واماكن انتظار السيارات والمحاور المرورية، وفي مبانى منتقاه بعناية، لتوفر بيانات لأجهزة الأمن والإدارة بالمدن حول الحوادث اللحظية في الوقت الحقيقي، مستهدفة وضع حوادث العنف المسلح تحت التسجيل بشكل واضح للغاية لحظة وقوعها.
الإحصاءات المسجلة عن الأداء الفعلي لهذه التقنية تقول أنه قبل نشر هذه الخدمة كان 80% من حوادث اطلاق النار لا يتم معرفتها أو لا يتم الإبلاغ عنها عبر خطوط الطوارئ التقليدية كخط النجدة، وعندما تكون هناك بلاغات بشأنها، تصل بعد 20 الى 30 دقيقة من وقوع اطلاق النار، لكن بعد نشر تقنية “شوت سبوتر” ارتفع عدد البلاغات ليغطي 100% من حوادث اطلاق النار بدلا من 20%، وارتفعت سرعة الإبلاغ لتقترب من الوقت الحقيقي، أى يكون البلاغ لحظيا، مصحوبا ببعض المعلومات عن السياق الذى يجري فيه الحدث، مثل عدد الجولات المتعددة من اطلاق النار، وعدد المصادر أو مطلقي النيران، وهو ما يعد أمرا مهما للغاية بالنسبة لرجال الأمن، الذين أصبحوا يتلقون كل هذه البيانات اللحظية عبر الشاشات في غرف التحكم المركزية لأجهزة الشرطة، أو على تطبيقات سهلة سريعة على هواتفهم الذكية أو الحاسبات اليدوية التي يستخدمونها في الميدان، أو عبر الشاشات داخل سيارتهم المجهزة باتصال مستمر بشبكة معلومات الشرطة واجهزة الأمن.
لو عدنا مرة أخرى إلي فلسفة الشرطة الدقيقة، وعلاقتها بتقنية المعلومات، سنجد أن هناك نظما أخرى في مناطق أخري من العالم تدعم هذه الفلسفة، منها علي سبيل المثال منظومة جديدة لعمل الشرطة وأجهزة الامن، عرضت في مؤتمر بعنوان “يوم الإبداع التقني بآسيا والمحيط الهادي” عقد بالعاصمة الماليزية كوالالمبور مطلع عام 2018، وهي منظومة طبقها جهاز الشرطة بمقاطعة لونج جانج بمدينة شينزن الصينية، بالتعاون مع شركة هواوي، وتعتمد هذه المنظومة علي الكاميرات والروبوتات الامنية، والتعرف علي المركبات، والفيديو واجهزة الاستشعار، والتعرف علي الوجوه، وتحليل البيانات الضخمة، وما يعرف “بتقنية إنترنت الاشياء”، وتدار بـ 41 الف كاميرا تنتج يوميا 14 مليون صورة للوجوه و140 الف رقم لوحة معدنية، بخلاف سلسلة أخري طويلة من نظم المعلومات وتطبيقات المحمول وخلافه، لتوفير معرفة لحظية متجددة، تستفيد بها جهات إنفاذ القانون وحفظ الامن، لتعزيز الفعالية والشفافية في عملها، واشراك المواطنين في عملياتها قدر الإمكان، كطريقة لمكافحة الجريمة وبناء الدعم الجماهيري المطلوب لعملياتها.
تباهى ضابط الشرطة امام المؤتمر بأنه يسعي ورجاله للوصول الي “المتهم الحقيقي والفعلي” فقط في اسرع وقت، وتخفيض حالات القبض تحت الاشتباه الي الصفر في نهاية المطاف، وأن يجعل مدينته تحقق هذا الأداء بقوات شرطية أقل عددا وتسليحا أو بلا سلاح احيانا سوي المعرفة والتلاحم والمشاركة مع الجمهور.
وصل مستوي الثقة والاحترافية لدي هذا الضابط إلي درجة القول أنه يسعي لأن تصل قواته في عضون سنتين علي الاكثر إلي وضع يجعلها تلتزم بتوقيتات محددة مسبقا للوصول الي المتهمين الحقيقيين، وفك الغاز القضايا والجرائم، وفي هذا السياق ذكر مثلا التزام الشرطة بإعادة الاطفال المخطوفين خلال اقل من 15 ساعة، مع تحديد دقيق للمتهمين فقط.
ما قيل خلال هذا المؤتمر لم يكن حديثا عن “حقوق الانسان” أثناء ممارسة الشرطة لمهامها، فسجل الصين في حقوق الانسان معروف عنه أنه ليس ناصع البياض، لكنه كان حديثا عن السعي للكفاءة في العمل، واستخدام سلاح المعرفة المبنية علي الاحتراف والتميز في جمع وتحليل وتداول وتوظيف البيانات والمعلومات، بعيدا عن أساليب القبض العشوائي والحصول علي الاعترافات تحت التعذيب، وتلفيق التهم، والتوسع في الاشتباه الذي يصل في العديد من دول العالم الي حدود القبض علي المئات وربما الآلاف من المشتبه بهم، وعصرهم عصرا وهدر كرامتهم من اجل الحصول علي معلومة عن متهم واحد قد لا يعرف هؤلاء الآلاف عنه شيئا.
القضية هنا ليست حقوق الإنسان المتهم، علي الرغم من كونها بلا شك كارثة انسانية مروعة ، ولكنها قبل ذلك قضية الأساليب البالية في العمل الامني، التي يلجأ إليها الاغبياء والمتخلفون والفشلة وقليلو الحيلة والأنذال من رجال الشرطة، ممن يمارسون الوحشية مع من يقع تحت ايديهم من خلق مكتوفي الأيدي بلا قدرة علي الدفاع عن النفس، وبلا شيء يحمى من هذا التغول والحيوانية في السلوك، فيضعونهم بالاقبية والزنازين، بعيدا عن الاعين، ويسومونهم سوء العذاب، بحثا عن معلومة أو اعتراف، يفرض عليهم تأهيلهم وتعليمهم وخبراتهم المتراكمة أن يصلوا إليه بوسائل أخري خلاف الاستئساد علي جسد وروح متهم، مكتوف الايدي، غير قادر علي الزود عن نفسه وكرامته.
وتقديري الشخصي أن التعريف الاصطلاحي لفلسفة “الشرطة الدقيقة”، يتعين أن يتوسع ليصبح “الشرطة الدقيقة العادلة”، التي تضمن دقة أداء أجهزة الأمن وعدالته، والعدالة تعني احترام القيم الإنسانية، وعدم الجور في استخدام السلطة، حتي في احلك الظروف، لأن إهانة أو اعتقال شخص واحد برئ او سلبه حقوقه، تتضاءل أمامها كل نجاحات الشرطة في التعامل مع العنف والمجرمين، ونعرف بالطبع أن هذه معادلة صعبة، تتمسك النظم القائمة علي الحرية والديمقراطية بالعمل الجاد علي تنفيذها، بينما تتراخي نظم الديكتاتورية والاستبداد في اعتنقاها وتطبيقها، إن لم تكن تتجاهلها عن سبق الإصرار والترصد، وهذا ما يجعلنا نقول بوضوح أن فلسفة الشرطة الدقيقة العادلة هي الآن رؤي وخطط تتحقق لدي من شاء قدرهم أن يحكمون بسلطة تؤمن بالديمقراطية وسطلة القانون واحترام الحريات وحقوق الإنسان، وهي في الوقت نفسه أحلام يقظة تتبدد باستمرار، لدي من شاء قدرهم أن يئنوا من وطأة الديكتاتورية والاستبداد، وتمحق كرامتهم وإنسانيتهم وحقوقهم تحت احذية الشرطة بدم بارد ليل نهار.
كاتب صحفي
|
الشرطة الدقيقة العادلة، فلسفة جديدة تمثل أحدث حلقة في الدعم الذي تقدمه صناعة تقنية المعلومات لجهات إنفاذ القانون، وجهات ومؤسسات الدفاع عن الحقوق والحريات المدنية وحقوق الإنسان، وكل المؤسسات الراغبة في عمل امني احترافي متقن، يضمن مكافحة الجريمة والعنف وحماية الحقوق والكرامة الإنسانية في آن معا.
تباهى ضابط الشرطة امام المؤتمر بأنه يسعي ورجاله للوصول الي “المتهم الحقيقي والفعلي” فقط في اسرع وقت، وتخفيض حالات القبض تحت الاشتباه الي الصفر في نهاية المطاف، وأن يجعل مدينته تحقق هذا الأداء بقوات شرطية أقل عددا وتسليحا أو بلا سلاح احيانا سوي المعرفة والتلاحم والمشاركة مع الجمهور.