اسراب من الروبوتات في 10 سنتيمتر مكعب ماء

جمال محمد غيطاس

لو نظرت إلي شعاع ضوء يخترق فتحة صغيرة، في سقف او حائط او نافذة، إلي داخل الحجرة، ودققت النظر، ستجد أن هواء الغرفة مليء بجسيمات صغيرة للغاية، تظهر عبر شعاع الضوء، وهي تتحرك حركة عشوائية مستمرة لا تتوقف، وكأنها في حالة سباحة دائمة.
ولو نظرت عبر المجهر الي سائل ما كالماء، أو غاز ما كالدخان، فسوف تجد به أيضا جسيمات صغيرة جدا، وهي في حركة أو سباحة دائمة عشوائية بلا توقف.
في الحالتين، قد تكون الأشياء الدقيقة مجرد جسيمات صلبة دقيقة الحجم، أو كائنات حية دقيقة مجهرية، كالبكتريا وخلافه، وعلي الرغم من أن الجسيمات الصلبة، تعبر عن حالة فيزيائية، والكائنات المجهرية، تعبر عن حالة بيولوجية، إلا أنهما يشتركان في وضعية السباحة العشوائية الدائمة، سواء بالغاز أو الماء.
يعني ذلك أن هذه الحركة لا ترتبط بعملية بيولوجية، وإنما ناجمة عن شيء آخر لا علاقة له بأي شكل من أشكال الحياة، وهو اصطدام أشياء ببعضها البعض، ينتج عنه الحركة النشطة العشوائية الدائمة، التي تحدث في بيئة مجهرية دقيقة الحجم.
إذا كانت الجسيمات من الكائنات الدقيقة الحية، فيكون من المتعين عليها أن تتعلم كيف تتكيف مع حالة الصدام الدائم المستمر مع جزيئات الغاز أو السائل، وأن تفهم طبيعة الضربات، وكيف تحدث ومتي، وكيف تطور لنفسها ميكانزمات للدفاع والحماية والعيش.
بعبارة أخرى يتعين عليها أن تفهم السياق الساد من حولها، وتتعايش معه، وفي غضون ذلك تلتقط وتخزن وتحلل تيار مستمر متدفق من البيانات، يأتيها من كل صوب، وعلى ضوء نتائج تحليلاتها، تتخذ قراراتها التي تمكنها من الاستمرار على قيد الحياة.
اكتشف عالم النبات الاسكتلندي روبرت براون هذه الظاهرة في عام 1827، وهو يدرس رحيق الازهار، وطلع التلقيح في النباتات، وعرفها علميا بأنها “الحركة العشوائية الدائمة الناشئة عن اصطدام جسيمات دقيقة معلقة في سائل أو غاز بجزيئات ذلك السائل أو الغاز”، وبعد ذلك باتت تعرف في الأوساط العلمية بـ” الحركة البراونية”، نسبة إلي روبرت براون، كما عرفت الجسيمات الدقيقة دائمة الحركة، بـ”السابحات المجهرية عشوائية الحركة”.
ما علاقة هذه الظاهرة المكتشفة في مطلع القرن التاسع عشر، بصناعة تقنية المعلومات والاتصالات في مطلع العقد الثاني من الألفية الثانية، او عام 2021؟
تتمثل العلاقة في محاولة متقدمة للغاية، يجريها علماء فيزياء، وذكاء اصطناعي، وعلوم حاسب، وتعلم آلي، بغرض استخدام الحركة البراونية، كقاعدة لبناء اسراب من الروبوتات الذكية المجهرية، تتماثل في الحجم والوزن مع الجسيمات الدقيقة الصلبة، أو الكائنات الحية المجهرية، التي تسبح بلا انقطاع عشوائيا في الوسط الغازي أو السائل، وتحاكى الكائنات المجهرية، وتتشبه بها، في طريقة فهمها واستجابتها مع كل المتغيرات الجارية بالبيئة المحيطة بها، وكيف أنها تعلم نفسها طوال الوقت كيف تعيش، وكيف تتحرك وتستوعب اصطدامها مع جزيئات السائل والمال.
 وبالتالي تستطيع هذه الجسيمات الدقيقة الذكية، أن تصبح هي الأخرى سابحات مجهرية لا نهائية الحركة، لكن الفرق بينها وبين السابحات المجهرية الطبيعية، تجمع البيانات من حولها، وتحللها وتفهمها، لكن حركتها ليست عشوائية، بل منضبطة وخاضعة للتحكم، والبرمجة المسبقة، ما يعني في النهاية الحصول على سابحات مجهرية اصطناعية قادرة على تحقيق أهداف وتنفيذ مهام موضوعة مسبقا.
هذه المحاولة بالغة الجرأة والتقدم والطموح، يقوم بها فريق من العلماء بجامعة لايبزج الألمانية العريقة، ونشروا حولها بحثا علميا رصينا، بمجلة العلوم الأمريكية، التي تعد من أرقى وأكثر المجالات العلمية رصانة، وظهر البحث بالقسم الخاص بعلوم الروبوت بموقع المجلة  يوم 24 مارس الجاري، كما نشر علي موقع الجامعة، وجاء البحث تحت عنوان “التعلم المعزز باستخدام السابحات المجهرية الاصطناعية الدقيقة”.
في معرض تناولهم للعلاقة بين علوم المعلوماتية وظاهرة الحركة البراونية، قال العلماء أنه لو تم الجمع بين قدرات علوم الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، وعلوم الحاسب وعلوم الفيزياء، فإنه يمكن العمل على استكشاف طريقة، يتم من خلالها جعل الجسيمات الاصطناعية المجهرية، القدرة على التعلم الذاتي، أي محاولة التعرف على جميع الظروف السائدة في الوسط الذي توجد به، والتدريب على كيفية فهمها، والتكيف معها والاستجابة لها، ومن ثم القدرة على التحكم في حركتها، وتحويلها من الحركة العشوائية إلي حركة منضبطة.
تعد هذه خطوة هائلة عالية العقيد، وتكتنفها تحديات بلا حصر، ويسرد العلماء في بحثهم الكثير من التفاصيل، التي يؤكدون خلالها أنهم قطعوا شوطا لا بأس به على طريق تحقيق الهدف.
فمثلا .. على صعيد بناء السابحات الاصطناعية الذكية الدقيقة، قالوا انهم طوروا مجموعة من الجزيئات النانوية أصغر من واحد على ثلاثين من قطر شعرة الرأس، ولأنها جزيئات غير حية، لا يمكنها استيعاب المعلومات وتعلمها مثل نظيرتها الحية، كالبكتريا والفيروسات وغيرها، فإنهم طوروا طريقة للتحكم فيها خارجيا، لتتعلم التنقل في بيئة افتراضية، واطلقوا على هذه الطريقة اسم “التعلم المعزز”، وتتم من خلال تسخين جزيئات من الذهب، موضوعة على سطحها، لتكتسب قدر من الطاقة، ثم تحويل هذه الطاقة إلي حركة، ومن خلال التحكم في الطاقة المكتسبة، يتم التحكم في طبيعة الحركة، وكيفية التعلم، وبالتالي انجاز المهام، ويتم التسخين بتقنيات ليزر متقدمة واستهدافية.
أشار العلماء في بحثهم إلي أن ” ربط الذكاء الاصطناعي، والأنظمة النشطة، مثل هذه السباحات الدقيقة، هو خطوة أولى صغيرة نحو مواد مجهرية ذكية جديدة، يمكنها أداء المهام بشكل مستقل مع التكيف أيضًا مع بيئتها الجديدة.
عبر العلماء في الوقت نفسه، عن أملهم في أن يوفر الجمع بين السباحات الدقيقة الاصطناعية، وطرق التعلم الآلي رؤى جديدة حول ظهور السلوك الجماعي في الأنظمة البيولوجية، وقالوا ” هدفنا هو تطوير لبنات بناء اصطناعية وذكية، يمكنها إدراك التأثيرات البيئية الخاصة بها، والتفاعل معها بفاعلية”.
ما يمكن الخروج به من هذا التطور المذهل، هو أنه على المستوي المعملي، يسعي لوضع اسراب من الروبوتات المجهرية الدقيقة الحجم، يضم كل سرب منها مئات أو أكثر من الروبوتات المصممة للسباحة الدائمة بلا انقطاع، في كمية من السائل أو الغاز، قد لا يتجاوز حجمها عشرة سنتيمترات مكعبة، لتصبح قادرة على التعلم والعمل، وفق خطة مسبقة، بالاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة.
أما على المستوي العملي الواقعي، فهو يسعي للدفع باسراب الروبوتات المجهرية الدقيقة، إلى وسط مائع “سائل أو غاز”، في بيئة معينة ، كالجسم البشري مثلا، لتحمل جرعات معينة من الدواء، إلي خلايا وأنسجة بعينها في الجسم بغرض العلاج، أو لتصل الي مكان ما بالجسم، وتقوم بسلوك معين، كإذابة جلطة، أو القضاء على خلية سرطانية.
وخارج النطاق الحيوي للجسم، يمكن الدفع باسراب الروبوتات المجهرية المعدة للسباحة الذكية بلا انقطاع، لتنفذ مهاما بالغة الدقة، في بيئات بالغة الصعوبة والتعقيد، كسائل محرك آلة، أو غاز يعمل في مصنع، أو بيئة عالية السمية والخطورة وخلافه.
أهلا بكم في عالم السابحات المجهرية الذكية، واسراب الروبوتات الاصطناعية الموضوعة في اقل من عشرة سنتيمترات مكعبة من المياه …. إن القادم مذهل اكثر .
كاتب صحفي
خبير تقنية
مؤسس مجلة لغة العصر
 

       

الهدف بناء اسراب من الروبوتات الذكية المجهرية، تسبح بلا انقطاع عشوائيا في الوسط الغازي أو السائل، وتحاكى الكائنات المجهرية، في طريقة فهمها واستجابتها مع كل المتغيرات الجارية بالبيئة المحيطة بها

أول التطبيقات، الدفع باسراب الروبوتات المجهرية الدقيقة، إلى بيئة معينة ، كالجسم البشري مثلا، لتحمل جرعات معينة من الدواء، إلي خلايا لتقوم بسلوك معين، كإذابة جلطة، أو القضاء على خلية سرطانية.

خطوة هائلة عالية العقيد، وتكتنفها تحديات بلا حصر، ويسرد العلماء في بحثهم الكثير من التفاصيل، التي يؤكدون خلالها أنهم قطعوا شوطا لا بأس به على طريق تحقيقها