درس الصين العظيم للفوز بحرب  المعايرة والتقييس

جمال محمد غيطاس

في صناعة تقنية المعلومات والاتصالات،  كغيرها من الصناعات والخدمات،  هناك مرجعية أو مسطرة قياس، لكل منتج وجهاز وأداة وبرنامج ونظام وخدمة، توضح القواعد والأسس المتبعة عند تصميمه وانتاجه وتشغيله ثم تحسينه وصيانته، ومن ثم الحكم علي مدي الجودة والسلامة والصحة والأمان التي يتمتع بها، والقيمة التي يحملها، واصطلح علي تسمية هذه المرجعية أو مسطرة القياس، “المعايرة والتقييس” أو المعايير وأدوات القياس، وهو مجال قررت الصين أن تخوض فيه حربا استراتيجية كبري طويلة الأمد لا هوادة فيها، ضد الغرب بأكمله، وفي القلب منه الولايات المتحدة، وعلي الرغم من كون الحرب في بدايتها إلا أن الصين، تقدم فيها درسا عظيما جديرا بالمتابعة.
التناول البسيط لهذه القضية الشائكة المعقدة، يتطلب الإشارة في البداية إلي ان أدوات المعايرة والتقييس، لها أهمية استراتيجية كبري طويلة الأمد في أي صناعة، وعلي رأسها تقنية المعلومات والاتصالات، لأن من يضع المعايير وأدوات التقييس، ويفرضها علي مجتمع الصناعة، يستطيع تلقائيا توجيه دفة الصناعة برمتها لتكون متوافقة مع مصالحه العليا بعيدة الأمد، من خلال جعلها صناعة معبرة عن ثقافته في التفكير والتخطيط والإنتاج والتشغيل والعمل، ومجسدة لموارده الطبيعية والبشرية، ومهاراته ونمط استهلاكه، بما يسمح  ذائقته وثقافته وحضارته بفرض نفسها كمعيار حاكم ونموذج ملهم للجميع عالميا في هذه الصناعة، مما يمكن ترجمته في النهاية كعنصر من عناصر القوة الجيوسياسية الاقتصادية الشاملة.
منذ نشأة صناعة تقنية المعلومات والاتصالات، في بدايات القرن الماضي وحتي الآن، وهي تخضع لمعايير وأدوات تقييس غربية الطابع، أمريكية المحور والجوهر والتوجه، حدث هذا في شبكات وأجهزة الاتصالات، ثم في أجهزة الحاسبات والمعلومات، ثم في شبكة الانترنت، ثم في خدمات تقنية المعلومات علي اختلاف ألوانها، وصار الحكم علي قيمة وجودة وصلاحية ما يقدم من منتجات وخدمات وأجهزة، مستند إلي معايير وأدوات تقييس، ولدت وترعرعت وعاشت وخضعت لما يدور في أمريكا وغرب أوروبا بالأساس.
دخلت هذه الصناعة قبل عدة عقود، من باب المشاركة في التصنيع والإنتاج، ثم المشاركة في الابتكار والتطوير، لكنها لم تتسرع وتقترب من قضية المشاركة والتأثير في المعايير والتقييس،  لأنها تعلم جيدا أنها معركة نفس طويل، وجهد عظيم، وبناء من الأسفل، ببطء ودأب ومثابرة، ولذلك بدأت التفكير في دخولها في العام 2001، حينما أطلقت استراتيجية التقييس الوطنية،  وللوهلة الأولي قدرت أن أقل مدي زمني لخطة المعركة هو 35 عاما، ولذلك جاءت الاستراتيجية لتتحدث عن جهود وخطط يتوقع أن تؤتي ثمارها الملحوظة القابلة للقياس في 2035، وأن العقدين الاولين أو العشرين سنة الأولي من الاستراتيجية ستكون فقط من أجل بناء موطئ قدم في عالم التقييس والمعايرة العالمي، وتحديدا داخل الهيئات والكيانات المتعددة الأطراف، المعنية بالمعايرة والتقييس في صناعة المعلومات.
مضت الصين في تنفيذ استراتيجيتها الخاصة بالمعايرة والتقييس في هدوء وثبات وصبر، فتارة تحصل المعارف، وتارة تتعلم وتبني المهارات، وتارة تتحسس طريقها لتثبت الحضور من اجل المتابعة والفهم، ثم تارة تضع القدم بغرس بسيط، في صورة مشاركة في معيار هنا أو هناك، وتسارعت وتيرة هذا الجهد شيئا فشيئا، مع النمو الجبار علي صعيد بناء قواعد التصنيع والإنتاج، ثم المشاركة في العمليات الارقي للابتكار والابداع والتصميم، فكلما اشتد عود المنتجات والصناعات الصينية في تقنية المعلومات، كلما وجدت اقدامها موطئا في عالم المعايرة والتقييس، وبمرور الوقت، كبرت مواطئ الاقدام، وثبتت واستقرت، وأصبحت المتابعة مشاركة، والمشاركة أمرا واقعا لا يمكن تجاهله.
بعد 20 عاما علي إطلاق الاستراتيجية، وجدت الصين أن الوقت قد حان لتطوير جهودها للفوز بحرب المعايرة والتقييس، وللدفع بعناصر المعايرة والتقييس الصينية، لتناطح المعايير وأدوات القياس الامريكية والغربية، سعيا للهدف الأسمي، وهو فرض المعايير والمقاييس الصينية علي الجميع، وجعل الذائقة والثقافة الصينية، هي السائدة والمهيمنة علي صناعة تقنية المعلومات عالميا.
ففي إبريل  2020 أصدرت اللجنة الوطنية الصينية للمعايير والتقييس، تقريرها الأول الذي تضمن ” النقاط الرئيسية لأجندة المجلس الوطني الصيني للمعايير وتوحد العمل في 2020″، كتمهيد لإطلاق استراتيجية صينية كبري جديدة طويلة الأمد في صناعة تقنية المعلومات، تحمل اسم “معايير الصين 2035”.
علي الفور قامت مؤسسة “هورايزون الاستشارية” الأمريكية ـ المتخصصة في الاستشارات الاستراتيجية التي تركز على توثيق الآثار العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية لنهج الصين تجاه المنافسة العالمية بتحليل الصيني المشار إليه،  وأصدرت بدورها  تنبيها نشر بالعديد من مواقع التقنية الامريكية الكبرى خلال ابريل 2020 أيضا، وأكدت فيه هورايزون الاستشارية أن التقرير يكشف بوضوح محاولة الصين اغتنام فرصة “الاضطراب والخلخلة” التي احدثها وباء كورونا، لتمرير معاييرها الصناعية الجديدة، لتصبح هي اللاعب الرئيس في صناعة تقنية المعلومات والاتصالات.
كشف التحليل الذي قامت به الشركة الأمريكية عن أن الصين بدأت إعداد المسودة النهائية لخطة ” معايير الصين 2035″ في عام 2018، حينما نظمت اللجنة الوطنية للتقييس مؤتمرا رسميا في ذلك العام، لتدشين افتتاح مرحلة التخطيط لمعايير الصين 2035، وامام هذا المؤتمر قال داي هونج، مدير الإدارة الثانية للمعايير الصناعية التابعة للجنة إدارة التقييس الوطنية الصينية، أن الصناعة والتكنولوجيا والابتكار تتطور بسرعة، وما زالت المعايير التقنية العالمية قيد التشكيل. وهذا يمنح الصناعة والمعايير الصينية الفرصة لتجاوز العالم، وتدويل معاييرها ومقاييسها لصناعة تقنية المعلومات، وقال إن الخطة ستركز على “الدوائر المتكاملة ، والواقع الافتراضي ، والصحة الذكية والتقاعد ، والمكونات الرئيسية لشبكة الجيل الخامس ، وإنترنت الأشياء ، والربط البيني لمعدات تكنولوجيا المعلومات ، والخلايا الكهروضوئية الشمسية، وطوال الوقت ، سيكون التركيز على “تدويل” المعايير الصينية.
بعد ذلك عدلت الصين المجالات المستهدفة في خطتها، لتعطي الأولوية للسيطرة علي معايير الصناعات الناشئة الراقية، كتصنيع المعدات والمركبات ذاتية القيادة، وغير المأهولة، زالمواد الجديدة، والإنترنت الصناعي، والأمن السيبراني، والطاقة الجديدة، وتحدث المسئولون الصينيون عن أن الهدف من التعديل ان تكون الصين مؤهلة ومستعدة لتحديد قواعدها.
سجلت الصين أول نجاح فعلي في حرب الهيمنة علي المعايير في مجال الطائرات الصغيرة بدون طيار “الدرونز”، المستخدمة لأعراض تجارية، حيث تمتلك شركة “دي جي آي” تقريبا المعايير وانظمة التقييس الخاصة بذلك، وتعمل إدارة المعايير والتقييس الوطنية الصينة الآن علي استغلال ذلك، و “صياغة المعايير الدولية لـ” تصنيف أنظمة الطائرات المدنية بدون طيار “لمساعدة صناعة الطائرات بدون طيار الصينية على الفوز بالمراكز القيادية التقنية في هذا الشق من الصناعة.
يعترف الامريكيون في تقريرهم بأن الصين تنوى العمل علي إيجاد دور مؤثر للجان الوطنية الصينية داخل المهام التنظيمية والتنسيقية لمنظمة المعايير الدولية “ايزو” واللجنة الدولية الكهرو تقنية “آي إي سي”، وأن تلعب اللجان الصينية ” دورا مهيمنا” بهذه المؤسسات وغيرها، مما يعني النية لتشكيل “السياسات والقواعد” بما يؤدي لنشر وهيمنة المعايير الصينية، وقد بدأت بالفعل الجهود لتنفيذ ذلك، من خلال شراكات واتفاقات، علي غرار اتفاق توحيد المعايير بين الصين ونيبال، والدور الكبير في نشر معايير الصين داخل منطقة الآسيان، والجهود الوليدة في هذا الشأن مع كل من ألمانيا وبريطانيا وكندا وغيرهم، وقد وفر الإغلاق العالمي المصاحب لوباء كورونا، فرصة للصين لتسريع هجومها الاستراتيجي في هذا المجال.
مجمل ما حدث في هذا التخطيط الهادئ طويل النفس حتي الآن يقول أننا إزاء “درس الصين العظيم” في حرب المعايرة والتقييس، حتي وإن كان أمامه 15 عاما حتي يكتمل، وحتي لو كانت بدايته معايير ومقاييس طائرة درونز بدون طيار.
كاتب صحفي
خبير تقنية
مؤسس مجلة لغة العصر
 

       

المعايير وأدوات القياس، مجال قررت الصين أن تخوض فيه حربا استراتيجية كبري طويلة الأمد لا هوادة فيها، ضد الغرب بأكمله، وعلي الرغم من كون الحرب في بدايتها إلا أن الصين، تقدم فيها درسا عظيما جديرا بالمتابعة

مضت الصين في تنفيذ استراتيجيتها الخاصة بالمعايرة والتقييس في هدوء وثبات وصبر، فتارة تحصل المعارف، وتارة تتعلم وتبني المهارات، وتارة تتحسس طريقها لتثبت الحضور

 بعد 20 عاما  وجدت الصين أن الوقت قد حان للدفع بعناصر المعايرة والتقييس الصينية، لتناطح المعايير وأدوات القياس الامريكية ثم تواصل سعيها للفوز  بالحرب