جمال محمد غيطاس
من العبث أن يكون جل اهتمامنا بأزمة شركة هواوي الصينية مع الحكومة الأمريكية ـ الموروثة منذ فترة ترامب ولم تحل حتي الآن ـ منصبا علي أشياء من قبيل مدي التأثر والضرر الذي ستعانيه هواتف هواوي نتيجة حرمانها من تحديثات نظام تشغيل اندرويد، لأن الأزمة ليست سوي العلامة الساخنة الأولي للحرب التقنية الباردة التى ستنشأ بسببها حالة استقطاب دولية حادة، ستقع بين فكيها الدول النامية.
ظاهر الازمة يقول أنها اندلعت خلال العام الماضي باتهامات من الحكومة الأمريكية للشركة الصينية بالإقدام علي ممارسات تجارية غير عادلة، وانتاج معدات بها مكونات تدخل تحت بند التجسس وتهديد الامن القومي الامريكي، فضلا عن تنفيذ أعمال ذات ارتباطات عسكرية قوية وواضحة.
توالت فصول الازمة وقام الامريكيون بأقناع الكنديين بتوقيف واحتجاز وتسليم واحدة من أبر المديرين التنفيذيين في الشركة، ثم صدر أمر تنفيذي من الرئيس الأمريكي السابق ترامب بإدراج الشركة علي القائمة السلبية السوداء للشركات التي تمثل تهديدا لأمريكا، وهو أمر يفرض علي جميع الشركات الامريكية التي لها تعاملات مع هواوي الحصول علي إذن مسبق قبل اجراء اي معاملة معها، وعليه قامت العديد من الشركات الامريكية ـ وبعض الشركات غير الامريكية ـ باتخاذ خطوات لفك أو تقييدا لروابطها مع هواوي امتثالا لأمر الصادر من الحكومة الامريكية.
أما باطن الازمة وسياقها الحقيقي فيتمثل في أن تقنية المعلومات الامريكية وشركاتها المختلفة هي المتصدرة للمشهد عالميا دون منازع لعدة عقود حتي الآن، وتعتبر الحكومة الامريكية أنه لابد من وجود “ستار حديدي رقمي” امريكي يجعل هذا الوضع قائما دون تغيير كبير.
لكن شركات التقنية الصينية ـ وعلي رأسها هواوي ـ باتت تمثل ستارا حديديا رقميا بديلا، يمكن للعديد من الدول ـ خاصة النامية ـ الاعتماد عليه في الولوج للعالم الرقمي الجديد، بمختلف جوانبه وآلياته، بعيدا عن الستار الحديدي الرقمي الأمريكي برمته.
ثمة شواهد تعزز هذا التحليل علي الأقل من ناحية الموقف الامريكي، الذي يبدو ظاهريا وكأنه يملك زمام المبادرة الكاملة، ومن هذه الشواهد:
أولا: علي الرغم مما يمثله التحالف المعروف باسم “جافتام” أو شركات ( جوجل وفيس بوك وتويتر وابل ومايكروسوفت وأمازون) من سطوة وتأثير عالمي وليس أمريكي فقط، فإن هذا التحالف العملاق المترامي الأطراف، بمصالحه ومواقفه ومناوراته وما يرتبط به من جماعات ضغط، بدا وكأنه شيء هامشي لا تأثير له علي التوجه الامريكي تجاه الصين، مما يدل علي أن المسئولين بمؤسسات صنع القرار الامريكي لم يتوقفوا ولو لبرهة حيال موقف تحالف “جافتام” ومصالحه وردود فعله، حينما أصبح الأمر متعلقا بسياسة امريكية بعيدة المدي مع الصين، ووضعوا كل هذه الشركات بما تمثله من انتشار وثقل علي الرف، والدليل علي ذلك أن التأثيرات المحتملة للأزمة مع هواوي لم تكن محل اعتبار عند صدور الامر التنفيذي بوضع هواوي علي القائمة السوداء مع ما يحمله ذلك من مخاطر.
آية ذلك أن محللين بوكالة بلومبرج الاقتصادية اصدروا تقريرا إبان الأزمة، ذكروا فيه أن السوق الصينية تمثل ثالث اكبر سوق لشركات التقنية الامريكية عالميا، حيث تبيع فيها الشركات الامريكية ما يزيد علي 10% من اجمالي انتاجها من السلع والخدمات، وبالتالي فإن القرارات المتخذة ضد هواوي يمكن أن تؤثر علي مبيعات الشركات الامريكية جميعا داخل السوق الصينية، حال اتخاذ الحكومة الصينية اجراءات مضادة، كأن تحظر دخول المنتجات الامريكية للسوق الصينية باستخدام الذريعة نفسها التي استخدمتها الحكومة الامريكية مع هواوي، وفي مثل هذه الحالة ستتأثر العديد من الشركات الامريكية، وفي مقدمتها جوجل وابل واي بي إم وريد هات وفي إم وير وانتل وأوراكل وأية إم دي وغيرهم، ومن المرجح أن تكون شركة أبل الأكثر تضررا علي الإطلاق، لأنها ستفقد 20% من سوق هواتف اي فون، كما أن الحظر سيرفع اسعار هواتفها بنسب قد تصل إلي 25% أو ما يعادل 160 دولار، وهو آخر ما ترغب أبل في أن يحدث لهواتفها التي تشهد تباطؤ كبير في مبيعاتها، وبالنسبة لجوجل قالت التقديرات أنها ستخسر سنويا ما يتراوح بين 375 مليون دولار و 425 مليون دولار بسبب قرارها بإيقاف وتقييد الدعم الذي تحصل عليه هواوي لنظام تشغيل اندرويد.
هكذا لم تضع الحكومة الامريكية اعتبارا لمثل هذه التأثيرات السلبية، وطوحتها علي الرف، لأنها ـ بحسب محللو بلومبرج ـ تنظر للأمر من زاوية “الاستار الحديدية الرقمية” المتصارعة علي الساحة الدولية حاليا ومستقبلا.
ثانيا: أن فصول الحرب الباردة الجارية علي قدم وساق ليست قاصرة علي أزمة هواوي فقط، بل لها ساحات اخري تعتمل فيها النيران تحت الرماد، وهناك ساحتان تقدمان مثالين جيدين في هذا السياق، الساحة الأولي هي الفلبين، حيث تقول بيانات هيئة الإحصاءات الفلبينية أن الولايات المتحدة لا تزال أكبر سوق تصدير للفلبين، ولكن أهمية الصين آخذة في الارتفاع، مما يجعل الفلبين من اولي ساحات الحرب الباردة التقنية الجديدة، فعلي الرغم من أن القلبين لها علاقات كبيرة ووثيقة تاريخيا مع الولايات المتحدة ، تناوب الرئيس رودريجو دوترتي الحب والكراهية مع الصين، وتحت رئاسته، وقع البلدان أكثر من اثنتي عشرة اتفاقية، منها قيام شركة تشاينا تيليكوم ببناء شبكة للهاتف المحمول في الفلبين، وهذا الشهر لخص تيودورو وكسين وزير الشؤون الخارجية القلبيني المزاج تجاه الصين بقوله: عرض الصين للشراكة الاستراتيجية أكثر جاذبية من العرض الحالي للولايات المتحدة بما يتضمنه من حالة الارتباك الاستراتيجي”، وهكذا فإنه في القلبين الاختيار التقني يميل إلي الصين.
الساحة الثانية هي فيتنام، التي تمثل حالة مناقضة للفلبين، ففيتنام حليف صيني طبيعي وتاريخي، لكن الأمريكيين نجحوا في أن يكون لدي الفيتناميين ميلًا دافئًا نسبيًا تجاه الولايات المتحدة، وبعد أربعة عقود من انتهاء الحرب الوحشية ، فإن الدولتين تقومان ببناء العلاقات العسكرية فيما بينهما، كما تسعى فيتنام إلى كبح جماح القوة الصينية، وهذا يجعل هانوي أكثر عرضة للتهرب من العروض الصينية في المجال التقني، إذا كان ذلك يعني فقدان المصالح المرتقبة مع واشنطن. لكن الخيار لن يكون سهلاً، بالنظر إلى عروض الصين الضخمة.
حتي الآن لم تتعرض الفلبين لعقوبات امريكية جراء تقربها من الصين، ولم ينزل العقاب الصيني بفيتنام نتيجة الغزل المتبادل مع امريكا، لكن البلدان يقدمان علامة قابلة للسخونة في الحرب التقنية الباردة الحالية، على التوازي مع بروز ازمة هواوي.
ثالثا: تنغمس الحكومتان الامريكية والصينية بصورة مباشرة، جنبا الي جنب مع شركاتهما الوطنية في حرب الذكاء الاصطناعي بفروعه المختلفة، من تعلم الآلة والتعلم العميق، والبيانات الضخمة والتحليلات الدلالية، وتحليلات المشاعر وغيرها، مما يعد في مجمله المجال المرشح لأن يصبح القلب النابض للحرب التقنية الباردة، ومعه بعض التقنيات الأخرى البازغة المرتبطة به، كالجيل الخامس لشبكات الاتصالات المحمولة ونظم انترنت الاشياء.
وإذا كانت أزمة هواوي قد تفجرت للعلن قبل عدة أشهر، فإن الحرب الباردة في مجال الذكاء الاصطناعي بين البلدين قد بدأت منذ سنوات طويلة، ووصلت الآن إلي ذروة من الذري المتوقع أن تزداد عنفا وشراسة، ووفقا لتقرير اعدته مجموعة متنوعة من المحللين ونشره موقع تيك ريبابليك المتخصص في التقنية مؤخرا، فإن الحرب الباردة بين الطرفين وصلت إلي درجة أنهما يتبادلان الوقوف علي قمة السباق بحسب نقاط القوة والضعف التي يملكها كل منهما، ووصف التقرير هذا الأمر بأنه “سباق تسلح في الذكاء الاصطناعي، قائم علي الموهبة”.
يمضي سباق التسلح الامريكي الصيني في الذكاء الاصطناعي فى خمسة مسارات، الأول تصنيع الشرائح الالكترونية الدقيقة التي تعمل كمعالجات دقيقة متخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث تبدو الشركات الصينية سريعة في تطبيق التقنيات الجديدة واختبار صلاحيتها التجارية، لكن بمكونات بناء مختلفة ليست كلها محلية، وهو ما يصنع أكبر عقبة أمام هيمنة الصين علي الذكاء الاصطناعي.
الثاني هو البحث العلمي بالذكاء الاصطناعي، ويذكر التقرير في هذه النقطة أنه خلال الفترة من 1998 إلي 2017 نشر الصينيون ما يقدر بحوالي 135 الف ورقة بحثية في مجال الذكاء الاصطناعي، في حين نشر الامريكيون ما يقدر بحوالي 106 ألف ورقة بحثية خلال الفترة نفسها، وفي حين حقق الصينيون تفوقا في أعداد البحوث، إلا أن التفوق الامريكي كان واضحا في مستوي جودة وقيمة البحوث، وذلك عند تفعيل معايير علمية اكاديمية مثل الاستشهادات الذاتية.
الثالث هو رعاية المواهب والمبدعين، وفي هذا المسار استطاعت الصين أن تمتلك حاليا خمس من أفضل عشر جامعات عالمية لرعاية وتطوير المواهب الابداعية، وأربع من هذه الجامعات هي جامعة تسينغهوا وجامعة بكين وجامعة شنغهاي جياو تونغ وجامعة العلوم والتكنولوجيا في الصين، قاموا بتخريج ما مجموعه 12521 خريجا في السنوات الأخيرة، معظمهم من ذوي المهارات التي تؤهلهم للعمل والإبداع في الذكاء الاصطناعي، ومع ذلك بقي 31 ٪ فقط منهم بالصين ، في حين غادر 62 ٪ للعمل والعيش بالولايات المتحدة، وحاليا يتركز التوزيع العالمي لمواهب التعلم الآلي بشكل كبير في الولايات المتحدة ، حيث يوجد حوالي 720،000 شخص ماهر في التعلم الآلي في جميع أنحاء العالم ، يعيش منهم في الولايات المتحدة ما يقرب من 221،600 يمثلون 31٪ من إجمالي المواهب عالميا.
الرابع هو الاستثمار، وهنا تقول الأرقام أن الشركات الصينية الناشئة في الذكاء الاصطناعي جمعت ما يقرب من 5 مليارات دولار في تمويل رأس المال الاستثماري خلال عام 2017 ، مقارنة بـ 4.4 مليار دولار في الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن الصين تفوقت على الولايات المتحدة من حيث التمويل ، إلا أن الولايات المتحدة كانت متفوقة من حيث سعة وحجم القاعدة الاستثمارية، ففي حين أن الولايات المتحدة جمعت أموالها من 155 مجالا استثماريا ، جاءت الاموال الصينية من 19 استثمارًا فقط.
الخامس هو الخطط الوطنية، وهو مسار يجسد الدخول العلني المكشوف المنظم لحكومتي البلدين حلبة الصراع مباشرة، وفي هذا السياق أصدرت الحكومة الصينية في يوليو 2017 خطة التنمية الوطنية للذكاء الاصطناعي، لتصبح الأمة الرائدة عالمياً في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030 ، بما في ذلك استثمار مليارات الدولارات في الشركات الناشئة للذكاء الاصطناعي والمناطق البحثية الكاملة، في المقابل أصدر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في فبراير 2019 أمر تنفيذي بتطبيق مبادرة الذكاء الاصطناعي الأمريكية، ويدعو هذا الأمر رؤساء الوكالات المنفذة الاتحادية لتحديد أولويات هذا البحث عند وضع مقترحات الميزانية للسنة المالية 2020. للعمل علي توفير تمويل جديد لدعم المبادرة.
مجمل المؤشرات السابقة يقول أنه مثلما كان العالم منقسمًا على أسس عسكرية قبل 70 عامًا ، فإن الحرب الباردة التقنية الجديدة التي تمثل هواوي علامتها الساخنة، ستقسم العالم بين قطبين رقميين، وسيكون الساسة بمعظم البلدان مجبرين على اختيار معسكر الصين أو معسكر أمريكا، وفق قرارات لن يتم اتخاذها في العلن، بل سيتم صنعها في غرف الاجتماعات البيروقراطية داخل المؤسسات، وفي السفارات الأجنبية فوق السجاد الرفيع، بسبب تدافع جماعات الضغط الحكومية وغير الحكومية المعبرة عن مصالح المعسكرين، وسيحدث ذلك في وقت لم يعد يوجد بالعالم زعماء من نوعية عبدالناصر ونهرو وتيتو، يستطيعون بناء “حركة عدم انحياز”، تلطف من الأذى الناجم عن هذه الحرب، ولذلك فإن الدولة التي توافق مثلا علي تثبيت وتشغيل التقنية الصينية في شبكاتها وبنيتها التحتية، سيكون عليها مواجهة احتمال عقوبة الحرمان من المنتجات الامريكية تحت ستار الأمن القومي الامريكي، والعكس فإن الدولة التي تختار أمريكا ستجد نفسها في مواجهة مع الصين.
بالنسبة لدول العالم خارج القطبين المتحاربين ، فإن مؤشر نجاتهم من تداعيات هذه الحرب سيكون مرتبطا بقدرة كل دولة علي الإبداع، وامتلاك شيء نفيس أو ذي قيمة مضافة في مسيرة البشرية ومسيرة الصراع نفسه، بما يسمح لها بهامش جيد للمناورة فيما بين القطبين، وتقع دول أوروبا وكندا والنمور الآسيوية في هذا المنطقة، ومعهم للأسف الكيان الصهيوني المسمي اسرائيل، بما يملكه من قوة فائقة في الابداع والبحث العلمي بأشد مجالات التقنية تقدما.
أما الدول الخالية الوفاض من الإبداع والقيمة المضافة، فستتضيق أمامها فرص النجاة، وستكون “مهروسة مسحوقة مذلولة مهانة” تحت اقدام أحد القطبين، فإما الانحياز للصين وتحمل العقوبات الامريكية القاسية، أو السير في ركاب امريكا وتحمل الغضب الصيني الذي لا يعرف الكثيرون مداه حتي الآن وأكثر الدول المرشحة لهذا المصير المهين، هي الدول التي تصنع الملك او القائد الأوحد الملهم الإله، وتقع تحت نير نظم تتلذذ بالديكتاتورية وتعشق الاستبداد، وتحنو علي الفساد، وتعتقل العقل وتخاصم الابداع، وترفع من قاموسها قيم الديمقراطية والحرية والكرامة الانسانية، وتحول أوطانها لسجون كبيرة، فتبدو كقوي احتلال داخلية، لا سلطة حكم رشيدة تخطو بشعوبها نحو المستقبل.
كاتب صحفي
|
شركات التقنية الصينية ـ وعلي رأسها هواوي ـ باتت تمثل ستارا حديديا رقميا بديلا
أصبح الأمر متعلقا بسياسة امريكية بعيدة المدي مع الصين
الحرب الباردة الجارية لها ساحات اخري تعتمل فيها النار تحت الرماد