الوجه المظلم لفيس بوك: صناعة الاستبداد لا خطاب العنف والكراهية

جمال محمد غيطاس

في أحد البرامج التليفزيونية الأمريكية الشهيرة، ثم في احدي لجان الكونجرس الأمريكي، ظهرت قبل أيام موظفة فيس بوك السابقة فرانسيس هوجين وهي تتحدث باستفاضة باعتبارها ” أحد المبلغين عن المخالفات”، قائلة إن فريق الإدارة العليا لفيس بوك وخوارزمياته العاملة بالذكاء الاصطناعي، يختارون بشكل روتيني ممنهج اعتبارات الربح المادي على قواعد السلامة، مما يهدد المجتمع ويعرض الديمقراطية للخطر.
كان حديث هوجين جاذبا لاهتمام واسع داخل وخارج الولايات المتحدة، بعدما قدمه البعض علي أنه يكشف “الجانب المظلم” لفيس بوك، وطريقته الخاطئة في التعامل مع المحتوى المنطوي على قدر عال من الخطر، كخطاب الكراهية، والتمييز والحض على العنف والانحلال الخلقي، والسلوك الاستهلاكي الجامح المنفلت، حيث يتجاهل فيس بوك هذا المحتوي أو يتساهل معه، أو يفشل في التصدي له، لأن إدارته العليا معنية بالدرجة الأولي بتحقيق الربح والعائدات، فهل ما تحدثت عنه فرانسيس هوجن هو الوجه المظلم لفيس بوك حقا؟
تقديري أن الإجابة هي لا .. لماذا؟
كل ما أوردته أو أبلغت عنه فرانسيس هوجان ـ على أهميته وصحته ـ ليس سوي جزء من القشرة الخارجية لوجه فيس بوك المظلم الحقيقي، الذي يتمثل بالأساس في تحوله إلي اللاعب الأساسي في صناعة الوجه الجديد للاستبداد، وظاهرة “الأوليجاركية التقنية”، أو القلة المسيطرة تقنيا، التي تتجه بوتيرة متسارعة، نحو السيطرة العميقة واسعة النطاق على الفضاء الاجتماعي والسياسي معا.
باحثون ومفكرون كثيرون تناولوا الوجه المظلم لفيس بوك من هذه الزاوية، وكان من بينهم جويل كوتكين، المدير التنفيذي لمعهد الإصلاح الحضري، وصاحب كتاب ” مجيء الإقطاع الجديد”، الذي كتب تحليلا نشرته مجلة النيوزويك الامريكية منذ يومين، وصف فيه جلسة الاستماع التي عقدتها اللجنة الفرعية للتجارة والعلوم والنقل التابعة لمجلس الشيوخ والمعنية بحماية المستهلك وسلامة المنتجات وأمن البيانات، وتحدثت فيها فرانسيس هوجان بأنها “عرض كابوكي”، في إشارة لفرقة الكابوكي اليابانية المسرحية الشهيرة، مضيفا أن شهادة هوجن أقل كشفا وأكثر إلهاءًا عن القضية الأكثر إلحاحًا، المتمثلة في التوسع الاحتكاري للتكنولوجيا الكبيرة ، وقوتها السياسية والثقافية المتنامية، وأن فيس بوك هو واحد من حفنة الشركات الضخمة قليلة العدد، التي تتحكم الآن في المحتوى الذي يتلقاه الجزء الأكبر من الناس، وبالتالي فإن الأمر في نهاية الأمر لا يعدو عن كونه ضجة محرجة لمارك زوكربيرج بعض الوقت، لكنها لا تشكل له أو لزملائه من مؤسسي التقنية الكبار شيئا يدعو للقلق.
لا يملك المرء سوي أن يتفق مع جويل كوتكين في تحليله، فالوجه المظلم لفيس بوك بالفعل هو مشاركته في التأسيس لصناعة استبداد جديد، وحكم اقلية جديد “أوليجاركية”، ومعه في ذلك بالطبع بقية أعضاء التجمع التقني فوق العملاق، المعروف باسم تجمع “جافتام”، ويضم كل من جوجل وأمازون وفيس بوك وتويتر وابل ومايكروسوفت، وهو التجمع الذي لم يتوقف عند سطوته شبه المطلقة على المحتوى الالكتروني المحض، بل استدار للهيمنة على العديد من وسائل الإعلام الرئيسية، فمثلا .. أصبحت كل من صحيفة واشنطن بوست ومجلة التايم، ونيو ريبابليك واتلانتيك وغيرهم من ممتلكات هذا العضو أو ذاك من تجمع “جافتام”.
لو عدنا للنظر إلي فيس بوك على وجه التحديد، سنجد وضعه أقرب إلي وضعية “القلب النابض” فيما يتعلق بصناعة الوجه الجديد للاستبداد، فعدد سكان العالم يتخطى الآن سبعة مليارات شخص، ملياران ونصف المليار منهم تقريبا يتعاملون مع الفيس بوك بصورة أو بأخرى وبشكل نشط على مدار الشهر، أي أن نحو 35.7% من سكان العالم أو ثلث سكانه تقريبا، بات لهم حضور على فيس بوك بشكل أو بآخر، ما يعني أن فريق إدارة فيس بوك وخوارزمياته وموظفيه، يتحكمون ويديرون المحتوى الذي يتلقاه شخص من بين كل ثلاثة أشخاص في العالم، ومن ثم يلعب دورا ما في تشكيل وعيهم ، وكيفية إدارتهم لتفاصيل حياتهم على مدار اليوم، وتلك على وجه التحديد هي القضية المركزية الجوهرية الأهم في وضعية فيس بوك.
داخل الولايات المتحدة ـ على سبيل المثال ـ يحصل ما يقرب من ثلثي البالغين على المحتوي الإخباري والإعلامي من فيس بوك وجوجل، وترتفع النسبة لما هو اكثر من ذلك بين جيل الألفية، الذين ولدوا ما بين 1995 و2000، وسيصبحون قريبا أكبر كتلة تصويت في البلاد.
هنا يمكن القول أن الوجه المظلم لفيس بوك يتجلى في عدة أوجه، منها أن فيس بوك يدعي دائما أنه يفسح المجال كاملا للمحتوي المولد بمعرفة المستخدمين، لينشر ويدار ويتداول بين ملايين الناس، دون تدخل منه، ويتخذ من ذلك ذريعة للتحلل من المسئولية القانونية عما ينشره المستخدم او يولده من محتوي، لكن عمليا وبمرور الوقت لم يعد فيس بوك يترك “المحتوي المولد بمعرفة المستخدم” وشأنه، بل وضعه تحت أعين موظفيه وخوارزمياته، ويحلو لفيس بوك استخدام مصطلحات على شاكلة ” رعاية” المحتوي، لكنه في حقيقة الأمر يقوم فعليا بإدارة المحتوي إدارة كاملة، سواء من خلال جيش الموظفين البشريين المخصصين لذلك، او من خلال الخوارزميات العملاقة الضخمة التي تتطور كل يوم بصورة مذهلة، وتتحكم في كيفية إدارة وتوجيه المحتوي وتوزيعه ما بين المستخدمين.
في هذه الوضعية، تحول موظفو فيس بوك وخوارزمياته الي ما يشبه “حراس البوابات”، الذين يضعون تقديراتهم الخاصة لطبيعة المحتوى الذي يديرونه، وإلي من يوجهونه، وهل يسمحون به أصلا أم يعتبرونه “خطاب كراهية”، وخطاب عنف، وبحسب ما قاله جويل كوتكين في هذه النقطة فإن “المبرمجين الإلكترونيين المكلفين بهذا العمل غالبًا ما يواجهون صعوبة في التمييز بين مجموعات الكراهية، وأولئك الذين قد يعبرون ببساطة عن معارضتهم إذا كانت وجهات نظرهم مشروعة”.
الجانب الثاني، أن فيس بوك بات يملك نوعين نادرين شاملين من جوانب القوة معا، الأول المهارات والكفاءة غير المسبوقة والمتنامية في امتلاك أدوات تجميع توليد وتخزين وفهرسة ومعالجة وإعداد وتجهيز البيانات والمعلومات، على نحو لم يتوفر لأي طرف مستبد من قبل، بما في ذلك المستبدين الكبار مثل موسوليني وهتلر وستالين، والثاني اتساع القاعدة الجماهيرية التي يتعامل معها وبلوغها مستويات غير مسبوقة أيضا، حوالي 2.5 مليار شخص على مستوى العالم.
نجح فيس بوك الي حد بعيد في الربط بين القوة الفائقة في التعامل مع البيانات، والاتساع الفائق للقاعدة الجماهيرية، وحول الاثنين إلي بيئة عمل عالية القيمة، تولد عائدات وارباح غير مسبوقة أيضا، في ضخامتها واستمراريتها وحداثتها، وخلال وقت قصير للغاية، تشكلت حول هذه العائدات امبراطورية اقتصادية رأسمالية متشابكة المصالح، لها امتدادات في كل الاتجاهات، وأصبح المساس بها، مساس في الوقت ذاته بمصالح عدد لا يحصي من الأطراف والكيانات والمؤسسات والشركات، ما بين حملة اسهم، وشركاء عمل، ومعلنين ومنتجين يعلنون عن السلع، ومستخدمين ارتبطت أعمالهم وتفاصيل حياتهم اليومية على نحو ما بقدرات ومزايا وخدمات الفيس بوك.
من ناحية أخرى، لا يفوتنا القول بأن اجتماع القوة الفائقة في التعامل مع البيانات، والاتساع الفائق للقاعدة الجماهيرية المستهلكة للمحتوي المضمن في هذه البيانات، يعد وضعا مثاليا طالما سعت اليه الأجهزة والكيانات التي يعد الاستبداد والتحكم أفضل ما تحبه وترغب به، وهي بالطبع سلطة الحكم وما تملكه من أدوات، وفي صدارتها مؤسساتها الأمنية، ومؤسسات توجيه الرأي العام.
إذا ما وضعنا هذه الظواهر جميعا بجانب بعضها البعض، سنجد أن مصالح فيس بوك وقدراته، تمضي على درب سيفضي لا محالة إلي حالة تلاقي مصالح مع المؤسسات والكيانات المجبولة سلفا على حب الاستبداد والعيش عليه، وفي مقدمتها جهات السيطرة والتحكم المركزية ممثلة بجهات الامن وأجهزة الحكم، وهذا التلاقي هو ما يجعل فيس بوك، أراد أم لم يرد جزءا من صناعة استبداد جديد، عبر تحالفه الواقعي، وليس شرطا القانوني أو التنظيمي مع مؤسسات السيطرة والتحكم وصناعة الاستبداد التقليدية.
نستطيع أن نلمح ذلك بوضوح في موقف فيس بوك داخل الصين، وما حدث في قضية شركة انالتيكا لتحليل البيانات، وقضية الإعلانات الروسية اثناء حملة الرئاسة الامريكية أيام ترامب وغيرها، بل وفي تعامله الفعلي مع ما يثار من وقت لآخر داخل الكونجرس ومؤسسات المجتمع المدني والمجتمع الاكاديمي، حول قضايا الاحتكار والتحكم والتأثير واسع النطاق في المحتوي، وفي الجماهير الامريكية، ففي كل مرة يذهب زوكربيرج الي الكونجرس، وتنتهي جلسات الاستماع وهو موافق تماما وبشكل روتيني على تلقي اللوم، لكنه يخرج وقد عزز حلفائه في الحكومة ودعم احتكاره ونفوذه السياسي، من دون أن يظهر مؤشر واحد على أن الطبقة السياسية قد ترجح في وقت ما تفكيك فيس بوك، او تصادر حساب زوكربيرج، او تنشئ وضعا قانونيا يغير من الأوضاع القائمة في شيء، ولعل من الأمثلة البارزة في هذا الصدد، ما حدث من جدل كبير حول المادة 230 من قانون آداب الاتصالات، التي طالب الكثيرون بتغييرها للحد من سطوة فيس بوك على المحتوي، حيث بدأ الجدل وانتهي من دون أية تغيير.
خلاصة القول إن فيس بوك تجاوز منطقة التأرجح والاختيار بين السيطرة والحرية، او بين القيم العليا للديمقراطية والحرية وأدوات السيطرة والتحكم، أو بين ترك المساحة الكاملة لقول الحقيقية، ولعب دور السلطة المركزية التي تحدد ما يمكن مناقشته بشكل شرعي وما يتم حجبه، وبات أقرب إلى الدخول في احتكار ثنائي او ثلاثي لسلطة الأقلية، يتكون منه كجزء من الأقلية التقنية المهيمنة، وأجهزة السلطة والتحكم الفعلية التقليدية، وباقي الرأسمالية الكبرى الأخرى ذات المصالح المتقاربة، وهذا هو التحدي الأكبر أو الوجه المظلم للفيس بوك حاليا ومستقبلا.
كاتب صحفي
خبير تقنية
مؤسس مجلة لغة العصر
 

       

 

 

لفيس بوك طريقته الخاطئة في التعامل مع المحتوى المنطوي على قدر عال من الخطر، كخطاب الكراهية، والتمييز والحض على العنف والانحلال الخلقي، والسلوك الاستهلاكي الجامح المنفلت، حيث يتجاهل فيس بوك هذا المحتوي أو يتساهل معه، أو يفشل في التصدي له، لأن إدارته العليا معنية بالدرجة الأولي بتحقيق الربح والعائدات، فهل هذا هو الوجه المظلم لفيس بوك حقا؟

 

 

 

وجه فيس بوك المظلم الحقيقي، يتمثل بالأساس في تحوله إلي اللاعب الأساسي في صناعة الوجه الجديد للاستبداد، وظاهرة “الأوليجاركية التقنية”، أو القلة المسيطرة تقنيا، التي تتجه بوتيرة متسارعة، نحو السيطرة العميقة واسعة النطاق على الفضاء الاجتماعي والسياسي معا.

 

 

 

فيس بوك واحد من حفنة الشركات الضخمة قليلة العدد، التي تتحكم الآن في المحتوى الذي يتلقاه الجزء الأكبر من الناس، وبالتالي فالأمر حاليا في نهاية الأمر لا يعدو عن كونه ضجة محرجة لمارك زوكربيرج بعض الوقت، لكنها لا تشكل له أو لزملائه من مؤسسي التقنية الكبار شيئا يدعو للقلق.