شاشات المحمول المستقبلية زجاج مرن أقوى 3 آلاف مرة ومستوحي من أصداف البحار

شاشات
في يوم ما دخل احد الحرفيين الرومانيين المهرة على الامبراطور طيباريوس الذي حكم روما بين عامي 14 و37 ميلادية، حاملا في يده وعاء مصنوعا من الزجاج، وطلب من الامبراطور محاولة كسره، فحاول عدة مرات، تارة بالضغط وتارة بقذفه بقوه علي الأرض، لكن الزجاج لم ينكسر، بل انحرف أو “تكرمش”، فما كان من الحرفي إلا أن امسك بالوعاء، وقام بإصلاحه وإعادته كما كان، قائلا للإمبراطور أنه اخترع ” الزجاج المرن”، غير القابل للكسر، وأن سر الاختراع يعرفه هو فقط، فما كان من الإمبراطور إلا أن قطع رأس الرجل، خشية أن يصبح الزجاج اكثر قيمة من الذهب والفضة، وتنقلب الأمور في الإمبراطورية، وهذا الأسبوع أعلن فريق من علماء جامعة ماكجيل الأمريكية عن توصلهم الي تركيبة جديدة، تسمح بإنتاج الزجاج المرن، واستخدامه في تصنيع جيل مستقبلي من شاشات للهواتف المحمولة وغيرها من الأجهزة الالكترونية، أقوى 3 آلاف مرة من الشاشات الحالية، وتتسم بالليونة العالية والشفافية والنقاوة والخفة، وغير قابلة للكسر في كل الأحوال.
3 محاولات سابقة
زجاج شفاف فائق النقاوة يحاكي عرق اللؤلؤ وليونته أعلى من رخويات البحار
قصة الحرفي والامبراطور رواها العديد من المؤرخين المعاصرين لفترة حكم الامبراطور طيباريوس، ومنهم بترونيوس ساتيريكون و بليني الأكبر، وجاءت الرواية بتفاصيل مختلفة، لكنها اتفقت في أن سر الزجاج المرن هو أمر مفقود ومختفي منذ دلك الحين، وعلى الصعيد العلمي والبحثي لم تنقطع المحاولات والاختبارات والدراسات من عصر إلي آخر، وفي العقد الأخير جرى الإعلان عن ثلاث محاولات في هذا السياق، الأولي في عام 2012 وقدمتها شركة كورنينج التي انتجت زجاجا مرنا يعتمد علي زجاج من مادة البور سليكات، والثانية في عام 2016 وقامت بها شركة سكوت اية جي التي تقدمت زجاجا مرنا مشابها، والثالثة في عام 2019 وقام بها فريق من العلماء بمعهد رينسلير، وهو جامعة بحثية خاصة تقع بمنطقة تروي بمدينة نيويورك الامريكية، حيث اكتشف الفريق طريقة تجعل الزجاج مرنا لينا أقل عرضة للكسر، وتستند هذه الطريقة إلى انه يمكن إضافة خاصية جديدة للزجاج المصنوع من السيليكا عن طريق ضغط جسيمات السيليكا النانوية معا، وتتمثل هذه الخاصية في “المرونة المعززة” التي تظهر عندما ترتبط ذرات السيليكون بخمس ذرات اكسجين بدلا من أربع كما هو سائد في الزجاج المستخدم حاليا والمسمى بزجاج الاكسيد، لتصبح قادرة علي تحمل الضغط، والتمديد بنسبة تصل الي 100% دون ان تتعرض للكسر.
والجديد الذي وجده شي وزملاؤه من خلال المحاكاة الجزيئية أن زجاج السيليكا المصنوع عن طريق ضغط جسيمات السيليكا النانوية معًا، قابل للتمديد بنسبة تصل إلى 100% دون أن يتعرض للكسر. وقال شي إنهم اكتشفوا أيضًا أن المرونة المعززة تظهر عندما ترتبط ذرات السيليكون بخمس ذرات أكسجين بدلاً من أربع، لتصبح قادرة على تحمل الضغط، وقد تم التوصل الى هذه النتيجة من خلال منهجيات المحاكاة الجزيئية.
البحث الجديد
صباح الثلاثاء من الأسبوع الماضي وتحديدا يوم 28 سبتمبر، نشرت جامعة ماكجيل الامريكية علي غرفة الاخبار بموقعها الرسمي تقريرا قالت فيه إن فريقا من باحثيها يعمل علي تطوير زجاجا أقوى وأكثر صرامة ويتمتع بمرونة وليونة البلاستيك، مستوحي من طبيعة الطبقة الداخلية للأصداف البحرية من فئة الرخويات، وتحديدا عرق من محاريات اللؤلؤ، وأهم صفة في الزجاج الجديد انه عند الاصطدام لا ينكسر، بل يمتص الصدمات وينثني او ينبعج ثم يعود كما كان، كما يحدث في البلاستيك، وأول مجال تطبيقي لهذا الزجاج هو شاشات الهواتف المحمولة، وشاشات الأجهزة الالكترونية الأخرى المماثلة، من بين تطبيقات أخرى عديدة واعدة.
قاد الأبحاث الخاصة بالزجاج الجديد الدكتور ألين إرليشر الأستاذ المشارك في قسم الهندسة الحيوية في جامعة ماكجيل، ضمن فريق ضم العديد من الباحثين الآخرين، ونشر الفريق ورقة بحثية كاملة حول نتائجهم بمجلة العلوم الامريكية، وقال العلماء في ورقتهم البحثية إن المواد الزجاجية تناسب العديد من التطبيقات نظرًا لشفافيتها الاستثنائية وصلابتها ؛ ومع ذلك ، فإن الكسر الضعيف ومقاومة الصدمات والموثوقية الميكانيكية تحد من نطاق تطبيقاتها، وقد أظهرت المواد الزجاجية الحديثة المستوحاة من الأحياء أداءً ميكانيكيًا فائقًا ، لكنها لا تزال تعاني من انخفاض الجودة البصرية، وفي هذا البحث تم التوصل لمركب زجاجي صدفي يوفر مزيجًا من القوة والمتانة والشفافية، وأمكن التوصل إليه من خلال خلط الأقراص الزجاجية ذات الحجم الميكرومتر مع البولي مادة الميثيل ميثاكريلات، وتنظيمها عن طريق الطرد المركزي ، مما أدى إلى إنشاء طبقات زجاجية كثيفة، ثم تم إنشاء مركب شفاف عن طريق ضبط معامل انكسار المادة الجديدة على الزجاج واستخدام الوظيفة الكيميائية لإنشاء واجهات شفافة مستمرة.
الأصداف مصدر الإلهام
يماثل الوصفة الأسطورية الرومانية الشهيرة للزجاج المرن القابل للكرمشة
وقال الدكتور إرليشر إن الزجاج الحالي يحتاج الي تقنيات مثل “التقسية” و “التصفيح” من اجل تقويته وجعله صلبا وقابلا للاستخدام، لكن هذه التقنيات مكلفة، وتصبح بلا قيمة بمجرد تلف سطح الزجاج أو تعرضه للضغط، فينكسر، وأضاف إن الطبيعة هي سيدة التصميم، ومنها يمكن استلهام كل شيء، ولذلك درسنا بنية بعض المواد البيولوجية، وفهم عملها للوصول إلي بعض الإلهام وأحيان المخططات للمواد الجديدة، وفي هذا البحث كان الهدف هو الوصول الي الزجاج الشفاف القوي المرن.
ومضي إرليشر قائلا إنه من المثير للدهشة أن بعض الأصداف البحرية الرخويةـ تتمتع بصلابة مادة صلبة، ومتانة مادة لينة، مما يجعلها تملك أفضل ما في العالمين، أي الصلابة والليونة، فهي مكونة من قطع صلبة من مادة تشبه الطباشير ومغطاة ببروتينات ناعمة عالية المرونة. ينتج هذا الهيكل قوة استثنائية ، مما يجعلها أقوى 3000 مرة من المواد التي تتكون منها، مما يجعلنا أمام “هندسة الصدف” المتميزة.
درس الفريق هندسة الصدف جيدا، ونسخوها بطبقات من رقائق الزجاج والاكريليك ، مما أسفر عن مادة قوية بشكل استثنائي يمكن إنتاجها بسهولة وبتكلفة زهيدة، لكنها غير شفافة، ولذلك قاموا بمزيد من البحوث لجعل المركب شفافا بصريا وبالغ النقاوة، وتم التوصل إلي ذلك من خلال ضبط معامل الانكسار للاكريليك، وجعلوه يمتزج بسلاسة مع الزجاج لصنع مركب شفاف حقًا، ويقومون حاليا بتحسينه من خلال دمج التكنولوجيا الذكية التي تسمح للزجاج بتغيير خصائصه ، مثل اللون والميكانيكا والتوصيل.
جيل جديد من شاشات المحمول
يمهد الطريق لشاشات فائقة الخفة طويلة العمر زهيدة الثمن غير قابلة للكسر
أكد الفريق أن مجمل النتائج السابقة تهيئ الفرصة للوصول الي جيل جديد من شاشات المحمول، تجمع بين الأداء الميكانيكي القوي الذي ربما يفوق بعض الخواص الحالية من حيث القوة بثلاثة آلاف مرة، وفي الوقت نفسه الليونة التي تمنع الكسر، اخذا في الاعتبار النحافة الكبيرة وخفة الوزن المطلوبة دائما في الزجاج المرن، حيث يتوقع أن يكون سمك هذا الزجاج ملليمتر واحد علي الأكثر، وعند الوصول الي التطبيق التجاري لهذه الشاشات، لن تكون قلقا علي الإطلاق على شاشة هاتفك المحمول عند السقوط من أي ارتفاع كان، لأنها ستكون شاشة لينة فائقة القوة غير قابلة للكسر، يمكن ان تبدو عليها الخدوش أو الانبعاج من اثر الصدمة، لكنها تعود لحالتها الاصلية بمجرد ان تمسح عليها برفق، على طريق الحرفي امام الامبراطور قبل عشرات القرون، وساعتها سيكون القلق علي الشاشة شيئا من الماضي.