الهند : تحول رقمى لا “لغو” رقمي

جمال محمد غيطاس

بدأ بالهند أمس موسم مبيعات “أيام المليارات الكبرى” عبر الإنترنت، الذي تنظمه شركة فليب كارت الهندية، بالتزامن مع مهرجان “امازون الهند الكبرى” الذي تنظمه أمازون العالمية، وأعلنت الشركتان عن مبيعات متوقعة عبر الانترنت قيمتها 9.2 مليار دولار خلال الفترة من 3 الي 10 أكتوبر، وهذا معناه أننا أمام حالة تحول رقمي ناضجة عميقة واسعة النطاق، تستند الي مبدأ الإنجاز بالإنتاج، وهي وضعية مناقضة تماما لحالة اللغو الرقمي السطحية الساذجة الضيقة التي تستند الي مبدأ الإنجاز بالإنفاق .. كيف؟ .. أرجو ان تصبر دقائق وتواصل القراءة لتتعرف علي الفرق بين التحول الرقمي واللغو الرقمي.
لنأخذ الأمر من البداية .. الحكاية أن أكبر موسم سنوي للعطلات والأعياد لدي الشعب الهندي، يقع في الفترة من 3 أكتوبر الي 4 نوفمبر، ويضم الموسم ثلاثة أعياد هي عيد نافاراتري، وعيد دوشهيرا، وعيد دياوالي، وبغض النظر عن معاني ودلالات هذه الأعياد، فإنها تمثل موسم الذروة السنوي لمبيعات التجزئة في الهند بأكملها، وبحسب تقديرات مؤسسة فورستر الاستشارية العالمية المتخصصة في بحوث سوق تقنية المعلومات، فإن حجم مبيعات التجزئة عبر الإنترنت المتوقع خلال موسم الأعياد الذي بدأ أمس يقدر بـ 9.2 مليار دولار، بزيادة قدرها  42٪ عن مبيعات موسم الأعياد السابق خلال عام 2020 والتي بلغت 6.5 مليار دولار، ومعدل النمو المتوقع هذا العام سيكون مدفوعا بالأساس بالمشترين عبر الانترنت من مدن المستوي 2 والمستوي 3 وما بعدها، حيث سيشارك حوالي 75 مليون مشتري عبر الانترنت، 50 مليون منهم من مدن المستوى الثاني وما بعدها.
وفقا للتوقعات فإن الهواتف المحمولة والأجهزة الالكترونية عموما ستكون الفئة الأكبر من حيث الشراء عبر الإنترنت، تليها فئة البقالة والأغذية التي تحتل المركز الثاني من حيث الحجم، والمركز الأول من حيث سرعة النمو، وفي المرتبة الثالثة تأتي فئة الملابس والموضة.
الأمور على هذا النحو تدل علي أن هناك مجموعة من المظاهر الدالة علي جدية وعمق التحول الرقمي وهي :
ـ بيئة سياسية منفتحة، مؤمنة بالتنوع وحرية التعبير والتغيير، والمكاشفة والنزاهة والمساءلة، والعمل التعاوني، وحفز الإبداع وحماية العقل النقدي، بما يحقق الطمأنينة والاستقرار المجتمعي اللازم لجلب المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال، ورواد الأعمال، بغرض العمل والبناء طويل الأمد.
ــ بيئة تشريعية وقانونية لإدارة جميع الأنشطة المرتبطة بالصفقات المقدرة بـ 9.2 مليار دولار خلال شهر تقريبا، وتتسم هذه البيئة القانونية بضمان الانسياب السلس التام والحر لجميع اشكال البيانات والمعلومات بين كل الأطراف ذات العلاقة بهذا النشاط، دونما أي تعقيد يعرقل مساراتها البينية علي أي نحو، كما تتسم بالاستقرار والوضوح من حيث البناء والصياغة والتجسيد الواقعي لمتطلبات ما يدور علي الساحة، بما يبعث الثقة لدي جميع الأطراف، بأنها بنية تشريعية تحقق التوازن بين مصالح الأطراف المختلفة، وتضمن حماية الحقوق، قبل وأثناء وبعد تنفيذ صفقات البيع.
ـ بنية تحتية رقمية تشمل خطوط الاتصالات، ومراكز البيانات، وقواعد البيانات، والتطبيقات والأجهزة الطرفية، بلغت درجة من النضج والثبات والتناغم والاستقرار تجعلها قادرة علي تحمل عبء عمل ضخم، في صورة عمليات مبيعات تجزئة يتشارك فيها 70 مليون شخص علي مدار شهر.
ـ أنظمة مدفوعات الكترونية عبر المحمول والانترنت، تتسم بالفعالية والكفاءة والدقة، وحائزة على ثقة جميع اطراف عملية الدفع والتسويات المالية، التي تشمل التجار والمشترين والبنوك وجهات الرقابة المالية وغيرها من الجهات ذات العلاقة.
ـ سلاسل توريد وإمداد وتخزين وتوزيع ــ شبكات لوجستية ــ  ملتحقة بالبنية الرقمية عالية الكفاءة، وتتسم بكونها سريعة ومرنة وقادرة علي التكيف اللحظي مع متطلبات الصفقات، وتعمل في اتجاهين،  الأول اتجاه النقل من المنتجين الي التجار، أي مراكز الإنتاج، إلى مراكز مستودعات التخزين الكبرى والوسيطة والصغرى وصولا لتجار التجزئة، وهو ما يطلق عليه بيئة ” من الاعمال للأعمال” أو “بي تو بي”، والاتجاه الثاني من تجار التجزئة الي المستهلكين النهائيين، وهو ما يطلق عليه بيئة ” من الأعمال للمستهلكين” أو “بي تو سي”.
وسواء كانت سلاسل التوريد في الاتجاه الأول أو الثاني، فهي لابد وان تكون متنوعة من حيث الحجم والوظيفة والتخصص أو المجال الذي تعمل به، ولابد وان يكون بعضها مرتبط مباشرة وبصورة أوثق بالمتاجر الالكترونية علي الانترنت، سواء كانت هذه المتاجر عبارة عن أذرع الكترونية لمتاجر فعلية واقعية، أو متاجر افتراضية، تربطها علاقات وثيقة ومنظمة بالمتاجر الفعلية.
في هذا السياق، قالت أمازون انها ستوظف 110 آلاف عامل موسمي، للعمل في سلاسل التوريد والإمداد والتوزيع وغيرها، لتلبية الطلب المتوقع في موسم المهرجانات هذا، وسيعمل هؤلاء من خلال ما يقرب من 60 مركزا لوجستيا في 15 ولاية هندية، تم رفع قدراتها التخزينية بنسبة 40% عن العام الماضي، أما شركة فليب كارت الهندية، فقالت إنها أضافت 75 الف بائعا جديدا علي نظامها الأساسي للتجارة التجزئة عبر الانترنت، ليصل إجمالي البائعين المسجلين لديها الي 375 الف بائع.
ــ جاهزية المظاهر السابقة جميعا للانتشار بطريقة تراعي التنوع الجغرافي بالبلاد، ما بين المناطق الساحلية والداخلية، والسهلية والجبلية والصحراوية، والنائية، كما يراعي التنوع الديموجرافي، من حيث الشرائح العمرية المختلفة، والتنوع الاجتماعي الاقتصادي، ما بين الغني والفقر، والطبقات الاجتماعية المختلفة بحسب المكانة الاجتماعية والمستويات التعليمية، والمناطق الحضرية والريفية وغير ذلك.
في النهاية تلاقت المظاهر السابقة معا، وشكلت البيئة الخصبة المهيأة لنشأة حاضنة مجتمعية صديقة، وجاهزة للإقبال على الاستخدام الواعي لهذه المنظومات.
انطلاقا من ذلك يمكننا القول إن مهرجان التسوق الذي بدأ أمس ومفترض له الاستمرار حتي 4 نوفمبر،  هو حالة تحول رقمي مجتمعي حقيقي ناضج عميق واسع النطاق لأنه:
ـ يعكس قبول مجتمع المشاركين فيه، حوالي نصف مليون تاجر و70 مليون مواطن، بخلاف مجتمع التقنية بأطيافه المتنوعة، بالاعتماد السريع للمدفوعات الرقمية، المحمولة وعبر الانترنت، وزيادة  ثقة المشتري في تجار التجزئة عبر الإنترنت لتسليم طلباتهم، ما يعني بالتبعية تسليم بنضج وقوة وكفاءة كل ما يرتبط بذلك من نظم وبرمجيات وتطبيقات وخدمات، وتحول شريحة واسعة من الشعب إلي تفضيل التسوق عبر الإنترنت لأنه من وجهة نظرهم أكثر أمانًا ويوفر الوقت وأسهل من الذهاب إلى المتاجر، وأن هذا الأمر شمل بضائع من فئات غير قياسية مثل البقالة والملابس والبضائع العامة.
ـ يشكل وصولا ناجحا لصناعات التقنية ـ برمجيات واتصالات والكترونيات وخلافه ـ إلي نتيجة مقبولة مجتمعيا، وقابلة للقياس والتقييم استنادا الي ما تقدمه من نتائج علي الأرض، وليس استنادا إلي ما تم إنفاقه فيها من أموال.
ـ أنه حالة تعمل فيها تقنية المعلومات كمحرك مهم ورئيس لعجلة الاقتصاد، من خلال تغيير أنماط الإنتاج لدي المنتجين إلي الأفضل ، وتغيير أساليب التسويق والبيع والتوزيع لدي التجار إلي الأسرع والأكثر سلاسة، وتغيير اسلوك المستهلكين النهائيين إلي الأسهل القائم علي المعاملة عن بعد، والدفع عن بعد، وتقريب الأطراف الثلاثة من بعضهم البعض، بصورة تسهل دوران عجلة الإنتاج والاستهلاك، وتحقق فائدة متبادلة علي الجانبين، وبالتالي فإن أشكال التغيير الثلاثة تعكس دورا مهما للتقنية في إحداث “تغيير ذهني ثقافي” بالمجتمع، وهذا هو قمة الإنجاز التقني، أو “درة التاج” في أي جهد يبذل في مشروعات التحول الرقمي.
في مقابل ذلك، هناك مئات وربما الآلاف من خطط وبرامج ومشروعات التحول الرقمي المنتشرة عالميا، ويمكن تصنيفها علي أنها “لغو رقمي”، وتعريف اللغو في اللغة أنه “ما لا يُعتدّ به من كلام وغيره، ولا يُحصَل منه على فائدة ولا نفع”، وعليه فإن اللغو  الرقمي يقصد به المشروعات والخطط التي لا تتوافر بها المظاهر السابقة أو غالبيتها الساحقة، ويتم غرسها في بيئة غير صديقة، فاقدة للانفتاح السياسي، والوضوح والاستقرار القانوني، والتوافق والقبول المجتمعي، وتقتصر فقط علي الحديث التقني المنمق، الذي يتبنى خطابا انبهاريا زاعقا، يرسم أحلاما وردية، ويتحدث عن ملايين تنفق علي خطوط اتصالات، وبرمجيات وتطبيقات، من دون قياس وتوضيح الإنجاز الذي يتحقق مقابل التكلفة، وطوال الوقت يتولى التسويق لها كوادر متحذلقة تقنيا، خاوية ثقافيا ومجتمعيا، ولذلك يظل مجرد لغو، يثير الجلبة، ولا ينتهي إلي ما  يُعتدّ به، او يحقق فائدة ونفع علي النحو المستهدف منه.
هل لاحظت الفرق الآن بين التحول الرقمي واللغو الرقمي؟ .. اشكر الهند.
كاتب صحفي
خبير تقنية
مؤسس مجلة لغة العصر
 

       

 

 

نحن أمام حالة تحول رقمي ناضجة عميقة واسعة النطاق، تستند الي مبدأ الإنجاز بالإنتاج، وهي وضعية مناقضة تماما لحالة اللغو الرقمي السطحية الساذجة الضيقة التي تستند الي مبدأ الإنجاز بالإنفاق

 

 

 

حجم مبيعات التجزئة عبر الإنترنت المتوقع خلال موسم الأعياد الذي بدأ أمس يقدر بـ 9.2 مليار دولار، بزيادة قدرها  42٪ عن العام الماضي، وسيشارك بالشراء حوالي 75 مليون مشتري عبر الانترنت، 50 مليون منهم من مدن المستوى الثاني وما بعدها.

 

 

 

هناك مئات وربما الآلاف من خطط وبرامج ومشروعات التحول الرقمي المنتشرة عالميا، ويمكن تصنيفها علي أنها “لغو رقمي”، وتعريف اللغو في اللغة أنه “ما لا يُعتدّ به من كلام وغيره، ولا يُحصَل منه على فائدة ولا نفع”