المعلومات .. والدولة الواعية أمنيا و”سكرانة” مجتمعيا

جمال محمد غيطاس

انظر حولك وستجد عشرات الدول التي يمكن وصفها بالدولة  الواعية أمنيا، والسكرانة مجتمعيا وتنمويا، بعبارة أخرى، ستجد دولا تتوخى اقصي درجات اليقظة والوعي بالبيانات والمعلومات في تصرفاتها الأمنية، لكنها تهذى معلوماتيا وإداريا ومؤسسيا وهى تمارس أعمالها وخططها التنموية، ومعاملاتها اليومية مع مواطنيها، وتتخذ قرارات تفتقر للمعلومات وتستند للفهلوة وحب التسلط وقلة المعرفة وحضور الأمزجة وغياب المنهجية، وفي الأغلب  ستكون إحدى هذه الدول اقرب إليك من حبل الوريد…. كيف؟ اقرأ معي التفاصيل التالية.
في العديد من الدول، تدار الأمور  وتصدر القرارات دون استناد إلى بيانات ومعلومات دقيقة محدثة مناسبة ذات قيمة عالية تناسب طبيعة القضية التي صدرت من أجلها، ومن ثم تكون في حالة انفصام مع الواقع وتفتقر إلى الرؤية الرشيدة الواضحة، وعند تنفيذها يحدث تخبط في الأداء وفقد للتوازن وترنح في الحركة وتأرجح في أكثر من اتجاه، ومع تكرار وتعدد هذه الحالة في القطاعات والهيئات المختلفة، تبدو الدولة ككل وكأنها غائبة عن الوعى أو مصابة بحالة “سكر” واضح، فتشبه من يمضى وهو يهذى غير مدرك للطريق الذى يسير فيه.
يبدو وصف “السكر” معبرا عن حال الدولة التي تعيش هذه الوضعة، لأن الأعراض التي تظهر على تصرفات الدولة المحرومة من المعلومات والبيانات طوعا أو كرها، تتشابه وتكاد تكون هي نفسها الأعراض التي تظهر على تصرفات الشخص “السكران” الذى تناول الخمر وما شابهها، والسبب في هذا التشابه أن الطرف السكران ــ سواء دولة أو شخص ــ يكون في حالة حرمان من البيانات والمعلومات، أو تكون المعلومات والبيانات بين يديه لكنه يفتقد القدرة أو الرغبة في توظيفها بالصورة السليمة.
بتوضيح أكثر فإن تأثير غياب البيانات والمعلومات على أداء الدولة يتضح في النقاط التالية التي نسوقها على سبيل المثال لا الحصر:
ـ في الدولة الواعية تبنى البيانات والمعلومات الحاضرة المحدثة المدققة الواسعة الإتاحة نوعا من المعرفة يختصر زمن اتخاذ القرار وزمن الاستجابة للطلبات والمتغيرات في كل المستويات، وبالتالي فإن الدولة الفاقدة للبيانات والمعلومات هي بطبيعتها دولة بطيئة الاستجابة ومستوى تفاعلها مع المواطنين وأصحاب المصلحة الآخرين منخفض، ويركز على التعامل مع الحدث بعد وقوعه كرد فعل، تماما كما يفعل السكران حينما يحاول المحيطين به التواصل معه، فيرد ببطء ويتصرف بصورة أبطأ أو قد لا يرد أو لا يتصرف على الإطلاق.
ـ في الدولة الواعية يؤدى وجود البيانات والمعلومات إلى توفير الفرصة للتعرف على حقيقة أوضاع المجتمع والمواطنين وأبسط السبل وأكثرها فاعلية واحتراما في التعامل مع حقوقهم وتطلعاتهم ومشكلاتهم، وبالتالي فإن غياب المعلومات يجعل تعاملات الدولة المباشرة مع المتعاملين معها معقدة بشدة وتفتقد التنسيق والمنطقية والوضوح، فتصبح تصرفاتها “كالسكران” الذى يتصرف بلا منطقية.
ـ في الدولة الواعية يعمل توافر البيانات والمعلومات على زيادة الشعور بالمعرفة والحاجة لمزيد من التعلم والتدقيق طوال الوقت، أما غيابها فينشئ إحساسا زائفا بالاكتفاء والإحاطة بكل شيء، وهو أمر يجعل الدولة تعيش حالة من النشوة الذاتية الزائفة، التي تمنحها إحساسا بأنها القلب أو المركز أو محور المعرفة والحكمة والإلهام، الذى يتعين أن يدور حوله ويستجيب له ويخضع له كل ما سواه، ومن ثم تركز على تحقيق ما تراه أو تضعه هي وإداراتها وهيئاتها من أهداف، أما الشعب والمواطنين وأصحاب المصلحة والجمعيات والمؤسسات فعلى الهامش، وعليهم أن يدوروا حولها، يبحثون عما تفعله، وفى هذه الحالة تتصرف الدولة على طريقة “أنا جدع” التي ينطق بها السكران، متوهما أنه يستطيع فعل أي شيء، في حين أنه لا يفعل أي شيء.
 ـ في الدولة الواعية التي تتوافر بها البيانات والمعلومات تكون الدولة مثل البناء الواضح المنظم الشفاف المفتوح الذى لا طلاسم فيه ولا ألغاز ولا قرارات أو خطوات مفاجئة غير مفهومة، ولذلك فإن غياب البيانات والمعلومات يجعل الدولة تبدو كالقلعة المغلقة على أصحابها ونظمها، فيصعب الوصول إلى مداخل أو نقاط التقاء تحقق التواصل الفاعل والجيد معها، ومن ثم يتم بداخلها فقط التعرف على ما يجب ان تقوم به وكيفية القيام بذلك، بينما الشعب والجمهور من حولها يفاجأ دوما بقراراتها دون أن يشارك فيها أو يتوقعها، وذلك على طريقة الحركات المفاجئة العبثية الخالية من المعنى التي يأتي بها الإنسان السكران ولا يفهمها من حوله.
ـ في الدول الواعية تلعب البيانات والمعلومات دور النسيج المشترك الذى تتحرك فوقه الروابط والعلاقات المتداخلة بين الأجزاء والأطراف والكيانات المختلفة، اما فقد أو غياب او تغييب البيانات والمعلومات فيؤدى لدولة تسودها علاقات غير متكاملة، بل ومتنافرة ومتضاربة في كثير من الأحيان، لأن وحداتها الإدارية ومراكز صنع القرار فيها ترى القضية الواحدة من زوايا متناقضة متصادمة، ولذلك تفعل الدولة الشيء وعكسه في نفس الوقت بلا منطق أو عقل، كما يفعل الشخص السكران حينما تقدم للأمام ثم يعود للخلف، او تفعل يده اليمنى عكس ما تفعل اليسرى.
ـ تبنى الدولة الواعية ذاكرتها استنادا إلى بيانات ومعلومات مدققة وحديثة وعالية القيمة، ومن ثم فالدولة الفاقدة للبيانات والمعلومات هي دولة فاقدة للذاكرة أو على الأقل دولة سريعة النسيان، وبالتالي تضع الخطط ولا تنهيها، وتدشن المشروعات ولا تصل بها لمراحلها النهائية وتتركها مفتوحة، أو ترتكب الخطأ ولا تتوانى عن ارتكابه مجددا، ومن ثم لا تتراكم لديها الخبرات بصورة منظمة، ولا تستند فيما تفعله إلى قيمة مستفادة من شيء سبق فعله، بل تبدأ دوما من جديد يمحو القديم في دورات لا تنتهى، مثل السكران الذى لا يتذكر شيئا مما فعل قبل أن يغيب وعيه ويذهب عقله، فيتخبط فيما يقول ويكرر ما يفعل بمنطق عبثي يدمر ولا يبنى.
وما دامت البيانات والمعلومات هي جوهر الدولة الواعية، فإن على قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بأية دولة أن يرفع سقف تعامله مع دولته، فلا يتوقف عند مجرد السعي الحثيث لنشر الأجهزة والشبكات والبرمجيات، وبناء صناعة للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بمفهومها التقني الضيق، بل يتجاوز ذلك للعمل بقوة في تحقيق التداول الحر والسلس للبيانات والمعلومات، الذي يبني دولة واعية، لا دولة “سكرانة” تئن هي ومواطنيها تحت وطأة مشكلات مهولة.
يرتفع معدل “السكر” لدى الدولة كلما كانت الديكتاتورية هي أسلوب الحكم، لأن الديكتاتورية بطبيعتها ضد مبدأ التداول الحر للمعلومات في المجال العام والشفافية والمساءلة والحوكمة والمكافحة الحقيقية للفساد والاحتكار وزواج المال بالسلطة، ومع مبدأ التعتيم وتكميم الافواه وتعمية الرأي العام، وكل ما يمهد الطريق نحو الفساد والإفساد، وتحالف المال مع السلطة، ولذلك فهي بالتبعية ضد الانسياب السلس المتوازن للبيانات بين مؤسساتها وقطاعاتها المختلفة، خوفا من ان تنتقل عدوى انسياب المعلومات والبيانات فيما بين وحداتها المختلفة، إلي المجال العام، والجمهور العام.
ولو دققت النظر في حالة “السكر” لدى الدولة المحكومة ديكتاتوريا، ستجده نوعا من “السكر” الانتقائي النوعي، فهي تسكر وتترنح وتعك في كل شيء، إلا فيما يخص أمنها وسيطرتها على الحكم، في تكون في غاية الانتباه واليقظة والتوظيف الدقيق الشرس للمعلومات والبيانات، وفي الغالب هي تقبل بنوع من التناقض، يجعلها تفكر وتسهر وتعي كل ما يخص سلطتها وامنها ومصالحها، وتسكر وتترنح وتفقد الوعي في كل ما يخص مصالح مواطنيها وحقوقهم، بعبارة أخرى، تعيش حالة يتجاور  فيها كل من الانشغال التام بدقة المعلومات وتداولها امنيا، والتجاهل التام للمعلومات وتداولها تنمويا، ما يتجسد في النهاية ثنائية الوعي الأمني والهذيان التنموي، وهي ثنائية تعصف بمصالح الشعوب والأوطان، وتضعها على منزلق ليس له قرار، فتظل تهوى كل يوم درجة إضافية إلى الأسفل، في الأداء والسياسات والخطط، فتزداد مشكلاتها تعقيدا، وترتفع معاناة شعوبها، وصولا الي غموض مستقبلها بأكمله.
كاتب صحفي
خبير تقنية
مؤسس مجلة لغة العصر
 

       

 

 

في العديد من الدول، تدار الأمور  وتصدر القرارات دون استناد إلى بيانات ومعلومات دقيقة محدثة مناسبة، ومن ثم تكون في حالة انفصام مع الواقع، وعند تنفيذها يحدث تخبط في الأداء وفقد للتوازن وترنح في الحركة، فتبدو الدولة وكأنها غائبة عن الوعى أو مصابة بحالة “سكر” واضح.

 

 

 

في الدولة الواعية يعمل توافر البيانات والمعلومات على زيادة الشعور بالمعرفة والحاجة لمزيد من التعلم والتدقيق طوال الوقت، أما غيابها فينشئ إحساسا زائفا بالاكتفاء والإحاطة بكل شيء، وهو أمر يجعل الدولة تعيش حالة من النشوة الذاتية

 

 

 

عشرات الدول تعد  دليلا ناصعا واضحا على صدق وصف الدولة الواعية أمنيا، والسكرانة مجتمعيا وتنمويا، التي تهذى إداريا ومؤسسيا وهى تمارس أعمالها وخططها التنموية، ومعاملاتها اليومية مع مواطنيها