جمال محمد غيطاس
لو دققنا النظر في عينه من الركام الهائل من المقالات المكتوبة والأحاديث المذاعة، التي تتحدث عن حروب الجيل الرابع والخامس، سنلاحظ مواد ينتجها وينشرها دعاة الديكتاتورية والفاشية والاستبداد والفساد، والمتحالفون معهم، تنحرف عن المعني الحقيقي والفعلي لهذه الحروب، وتحولها الى ذريعة لإلصاق كل نقيصة بأي تحرك مجتمعي نحو الديمقراطية والحرية والعدالة والمساوة.
مضت الأمور على هذا النحو خلال السنوات الأخيرة ولا تزال، حتى بات الحديث عن حروب الجيل الرابع في كثير من الأحيان، اقرب إلى سرد غوغائي لمقولات لا تزيد عن كونها حديث عن الدور السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي، في تهييج وتجييش الجماهير وإثارتها لتصبح كالثور الهائج الأعمى الذي يدمر مؤسساته ويبدد مقدراته بسلوك منفلت مغلوط، يخدم اعدائه من دون أن يحقق أي شيء من أحلامه والواقع ان الأمر على هذا النحو ليس سوى حق يراد به باطل، فهو حديث عن الآثار الجانبية السلبية للتقنية على المجتمع، وهذا هو الحق، أما الغرض الحقيقي فهو ابراز هذه الجوانب السلبية بغرض تكريس الديكتاتورية والاستبداد وحجب المعلومات وخنق الحرية وحرية التعبير والكرامة والعدالة والديمقراطية، وهذا هو الباطل.
إن دعاة الديكتاتورية والفاشية، وخصوم الحرية والديمقراطية، تعاملوا مع حروب الجيل الرابع على طريقة من قابل فيل ضخم، فقرر أن يتحدث عن شعره من ذيله، ويقدمها للناس على أنها الفيل، لأن هذه الشعرة على صغرها هي ما يخدم أغراضه فاحتفي بها ومنحها جل اهتمامه، ثم قرر ان يهمل باقي جسد الفيل، لان الجسد على ضخامته لا يخدمه في شيء فتجاهله … كيف ذلك؟
تعتبر جودة المعلومات هي النقيض أو المقابل الموضوعي لضبابية الحرب، ولأن هذه الجودة تتحقق بناء على جودة الوسائل والأساليب الفنية للتعامل مع المعلومات ونقلها، كان من الطبيعي أن تتغلغل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات داخل المؤسسات العسكرية وتنشأ بينهما علاقة تفاعلية في حالة اضطراد وتوسع وتعمق طوال الوقت، فكلما زادت الحروب تعقيدا زادت حاجتها لمستويات أعلى وأكفأ من وسائل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وكلما أتاحت تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات مزيدا من الكفاءة ارتفعت درجة تعقيد الصراع المسلح، فتزيد الحاجة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتبدأ الدورة من جديد.
وقد دارت عجلة التطور في هذا السياق حتي أوصلت الأمور إلي ما يعرف بحروب الجيل الرابع، أو الحروب التي تلعب فيها أدوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات اليوم تلعب دورا أساسيا وحاسما، في ساحات المعارك، عبر رفع معدلات الكفاءة والسيطرة على الأسلحة والمعدات والافراد والخطط والعمليات بصورتها الشاملة، التي تكون فيها الجوانب النفسية والدعائية والتعامل مع الرأي العام والجماهير أحد الأجزاء المطلوب حسمها خلال المعركة، سواء كان ذلك عبر وسائل تواصل اجتماعي أو انترنت او هجمات امن معلومات، او حملات محتوى مخطط أو مغلوط أو خلافه.
بعبارة أخرى، يمكننا القول أن قلب حروب الجيل الرابع إن لم تكن غالبيتها الساحقة، تقع بالأساس داخل المؤسسات العسكرية ونظمها واسلحتها وخططها وأدواتها وعملياتها، وبعض أطرافها تتماس مع الجمهور العام خارج المؤسسات العسكرية، ولكي نقيم الدليل على ذلك سنستعرض مثالا حول دور تقنية المعلومات والاتصالات في سلاح واحد فقط هو الصاروخ كروز، لنعلم أن ما تم وضعه في هذا السلاح وحدة من تقنية ومعلومات واتصالات وتبادل بيانات، يفوق من حيث الكثافة والدقة والرقي العلمي والعملي، معظم الهراء الذي يحرص دعاة الديكتاتورية على تصوير أنه موضوع في التكتيكات القائمة على الاستخدام السيء لشبكات التواصل الاجتماعي تجاه الجماهير.
وقبل الحديث عن دور التقنية في صاروخ كروز كمثال محدد، أود الإشارة أولا إلي أن مفتاح الدور الحالي الذى تلعبه تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الحروب من الجيل الرابع أو غيره يكمن في كلمة واحدة هي “convergence“، وهي لفظة إنجليزية معناها القاموسي ” التمازج والتلاحم أو الميل للتجمع في نقطة واحدة”، لكنها على المستوي التكنولوجي في مجال الاتصالات والمعلومات تعني تلاحم وتمازج البرمجيات والحاسبات والكاميرات والخرائط الجغرافية وقواعد البيانات والشرائح الالكترونية والأقمار الصناعية وشبكات ونظم الاتصالات وشبكات المعلومات وجميع أجهزة الاتصالات في نظام أو بيئة معلوماتية عملاقة، نجعل المعلومات المسموعة والمرئية والمكتوبة والمسجلة على شكل نصوص وصوت ورسوم وخرائط وبيانات تتدفق بين جميع هذه الأشياء بلا انقطاع على مدار الساعة واليوم بشكل فورى ولحظي وبمنتهى السهولة والسرعة، وعبر عدد غير محدود من الأجهزة والمعدات، لتكون أي معلومة متاحة لأى شخص من حقه استخدام النظام في أي وقت وأي مكان ومن خلال أي جهاز، وليكون أي جهاز أو معدة في أي نقطة من الكرة الأرضية قابلا لأن يصبح تحت السيطرة والتحكم والتوجيه والمتابعة والاستخدام من أي مكان على الأرض.
يقدم الصاروخ كروز نموذجا للتطبيق العملي لمفهوم التلاحم، فهذا الصاروخ يفترض أنه ينطلق من موقع معين كسطح سفينة بعرض البحر المتوسط أو الأحمر أو الخليج العربي أو طائرة تحلق في الجو، ليتخذ طريقه إلى هدف محدد داخل بغداد، ولكى يصل لهدفه بدقة لابد أن “يعرف” الصاروخ طريقه جيدا خلال رحلته من نقطة الانطلاق إلى الوصول، ولتحقيق ذلك يتعين تزويده بقدر من المعلومات والبيانات تجعله ” يعرف” طريقه، وإنجاز هذه المهمة يتطلب وجود شرائح الكترونية توضع داخل الصاروخ لكى تخزن عليها المعلومات والخرائط التي تحمل موقع الهدف وأوامر التوجيه وتحديد المسار، وهنا تتدخل صناعة الالكترونيات، ولكى تعمل هذه المعلومات طبقا للأوامر المطلوبة لابد من برمجتها بشكل معين، وهنا لابد من وجود برنامج معلومات متخصص يقوم بذلك، ومن ثم لابد من أن تتدخل صناعة البرمجيات، ولكى يعمل البرنامج على الشريحة لابد من وجود عقل الكتروني دقيق يقوم بتشغيل البرنامج ومعالجة البيانات، وهنا تتدخل صناعة المعالجات الدقيقة السائدة في تصنيع الحاسبات، لأننا في الحقيقة نحتاج هنا إلى ما يشبه حاسب إلى دقيق محدد الوظيفة في رأس الصاروخ.
وإذا انطلق الصاروخ وهو محمل بكل هذه الإمكانات فهذا لا يكفى لتوظيف ما لديه من معرفة بشكل يتيح له الوصول بدقة للهدف، لأنه لا يزال محتاجا لمن يحدد له مكانه بدقة في كل لحظة من لحظات رحلته إلى الهدف، لكى يعرف أنه في المسار السليم، وهذا الأمر يتطلب أن يتعاون عقله الالكتروني الدقيق وما تحتويه ذاكرته من معلومات وخرائط مع طرف خارجي لديه القدرة على تحديد المكان، والطرف الخارجي هنا هو نوعية من الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض على مدار الساعة وتستطيع تحديد موقع أي هدف يتحرك على الأرض بطريقة لحظية، والتي يمكن للصاروخ أن يكون على اتصال دائم بها، ويتلقى منها معلومات تحدد موقعه لحظة بلحظة حتى الوصول للهدف، وهنا تكون صناعة الاتصالات وخطوط الاتصالات قد دخلت طرفا في المعادلة.
وخلال الغزو الأمريكي للعراق مثلا، كانت هناك عشرات الصواريخ تطلق في وقت واحد من أماكن مختلفة على أهداف متنوعة وربما في أماكن متقاربة داخل بغداد وفى مناطق أخرى من العراق، وهذا يعنى أنه لابد من وجود نظام للسيطرة والتوجيه وتتبع هذه الأعداد من الصواريخ المصوبة في وقت واحد على أهداف تتقارب جغرافيا، ونظاما من هذا النوع يحتاج بطبيعة الحال إلى قواعد بيانات عملاقة، خاصة بالأهداف المطلوب تدميرها، ومسار كل صاروخ يجرى إطلاقه، ثم برمجيات ونظم معلومات في غاية التطور والتعقيد تستطيع توظيف محتوى قواعد البيانات في القيام بعدد لا حصر له من المعادلات وعمليات المضاهاة اللحظية بين البيانات الواردة من نظم تتبع الصواريخ والبيانات المخزنة عن هدف ومسار كل صاروخ، لكى يتم متابعة وتوجيه كل الصواريخ لحظيا، وهذا يتطلب بالطبع حاسبات خادمة فائقة الكفاءة لإدارة هذه العملية، وهذه الحاسبات تستند بدورها لشبكة معلومات عالية السرعة والقوة، تكون منفتحة تماما مع شبكات الاتصالات، سواء الأرضية أو العاملة عبر الأقمار الصناعية، وهنا تكون صناعة نظم المعلومات وبناء شبكات المعلومات وصناعة الحاسبات قد أصبحت هي الأخرى طرفا في المعادلة.
بهذا الشكل يكون الصاروخ كروز قد قدم نموذجا حيا لكيفية التوظيف العملي لمفهوم التلاحم في صناعة نظام رحب لتبادل المعلومات، يوفر قدرا من المعرفة اللحظية لهذا الصاروخ الأصم، فيجعله ذكيا ـ حسب التعبير الرائج حاليا ـ في التعرف على هدفه والوصول إليه، وقدم نموذجا أن مفهوم التلاحم شكل نقطة الارتكاز المحورية التي انطلق منها تفوق الأسلحة والمعدات والأفراد والخطط في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فقد أوجد هذا المفهوم أو التوجه إطارا معلوماتيا مشتركا للتعارف والتعايش والاتصال بين المعدات والآلات الحربية والإنسان وبين الآلات وبعضها البعض أيضا، فما أن تزود الآلة أو المعدة العسكرية بإمكانات معلوماتية كشريحة الكترونية محمل عليها برنامج معلومات، وكاميرا دقيقة ثم بإمكانات الاتصال اللاسلكي أو الفضائي بشبكات الاتصالات والمعلومات، حتى تصبح قادرة على أن تكون طرفا في منظومة معلوماتية شاملة، وتعمل كطرف يتفاعل مع الآخرين لحظيا ـ بشرا أو آلات ـ وفق مستوى من المعرفة يضفى على تصرفاتها قدر من الذكاء خلال الحرب.
وعلى أية حال فإن موجة التلاحم التي يجسدها الصاروخ كروز تمهد الطريق للحديث عن الاستراتيجية الخاصة بتوظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصالات عسكريا، وتعرف باستراتيجية “القوات المسلحة الممركزة شبكيا التي تخوض حربا شبكية”، بمعنى أن تكون الجيوش معتمدة بالكامل على شبكة معلومات أساسية مركزية قوية قائمة على مفهوم التلاحم، يستخدمها الأفراد والقيادات وأيضا الأسلحة والمعدات، في الوصول إلى البيانات والمعلومات اللحظية التي تحتاجها، بما يجعل الجيش جيش المعلومات أو جيش المعرفة، تماما كما يتحدث المدنيون عن مجتمع المعلومات ومجتمع المعرفة.
هذا السياق هو مكمن “القلب” في المعنى الحقيقي لحروب الجيل الرابع، في صورتها العملياتية التكتيكية أو الاستراتيجية الجادة، أما ما يلوكه البعض عن عمد أو على غير هدى، من أن حروب الجيل الرابع هي حملات تنفذ عبر شبكات التواصل بغرض الخداع وتزييف العقول، فهذا امر بأشبه ” بتنميل الفيل”، أي محاولة جعل الفيل في حجم النملة، لصرف الانتباه عن المعنى الضخم، و”تفييل النملة”، أي محاولة جعل النملة في حجم الفيل، لجذب الانتباه للمعنى الهامشي الصغير بطبعه، وهي لعبة يمارسها دعاة الديكتاتورية من دون كلل أو ملل، لصرف الانتباه عن أي جهد يسعى نحو قيم الحرية والعدالة والديمقراطية.
كاتب صحفي
|
الكثير من المقالات المكتوبة والأحاديث المذاعة، التي تتحدث عن حروب الجيل الرابع والخامس، هي مواد ينتجها وينشرها دعاة الديكتاتورية والفاشية والاستبداد والفساد، والمتحالفون معهم، تنحرف عن المعني الحقيقي والفعلي لهذه الحروب، وتحولها الى ذريعة لإلصاق كل نقيصة بأي تحرك مجتمعي نحو الديمقراطية والحرية والعدالة والمساوة
جودة المعلومات هي النقيض أو المقابل الموضوعي لضبابية الحرب، ولأن هذه الجودة تتحقق بناء على جودة الوسائل والأساليب الفنية للتعامل مع المعلومات ونقلها، كان من الطبيعي أن تتغلغل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات داخل المؤسسات العسكرية وتنشأ بينهما علاقة تفاعلية في حالة اضطراد وتوسع وتعمق طوال الوقت
فى الصاروخ كروز تتضح كيفية التوظيف العملي لمفهوم التلاحم في صناعة نظام رحب لتبادل المعلومات، يوفر قدرا من المعرفة اللحظية لهذا الصاروخ الأصم، فيجعله ذكيا، وبالتالي يقدم نموذجا للسياق الذي يعتبر هو مكمن “القلب” في المعنى الحقيقي لحروب الجيل الرابع، في صورتها العملياتية التكتيكية أو الاستراتيجية الجادة