جمال محمد غيطاس
الخصوصية والستر وحماية وصون الاسرار الشخصية، جزء لا يتجزأ من الطبيعة الإنسانية منذ ظهور الإنسان على الأرض، ظل يتطور ويتخذ اشكالا أكثر نضجا مع اتجاه البشرية نحو مزيد من التحضر والرقي، لكن الإنترنت في جوهرها عالم يستمد حيويته وقوته من المكاشفة والرصد والشفافية وكسر الحواجز وعرض كل شيء عن الكل على الكل، وخلال السنوات الأخيرة جعلت مستخدمها مكشوفا قابلا للتعقب وجعلت خصوصيته عرضه للانتهاك وانسانيته عرضه للهدر، وكيانه عرضه للتحول الي سلعة تباع وتشترى طوال الوقت.
كرد فعل مضاد يحاول صون الطبيعة الإنسانية في حالتها الأصيلة الأولى، ظهرت توجهات عديدة ترفض جور الإنترنت علي خصوصية الإنسان، وتعريض إنسانيته للتآكل والهتك، وتجسد رد الفعل في قوانين وقواعد تارة، وفي أدوات وتقنيات تارة أخرى، ومن أحدث ما ظهر علي هذه الساحة توجه يرفع شعار “الويب الإنسانية”، ويطور أدوات وآليات تنفذ الشعار وتطبقه على أرض الواقع.
ظهر مفهوم “الويب الإنسانية” بصورة محددة واضحة في مطلع عام 2017، علي يد شركتين صغيرتين، آمن من أنشأوهما بالفكرة، وبحثوا عن آلية مضادة لكل ما يخصم من إنسانية الإنسان، ويحد من خصوصيته، وانتهوا إلي أن الويب الإنسانية لابد وأن تبدأ بالمستخدم الشبح، أو المستخدم الذي يصول ويجول عبر الشبكة طوال الوقت، دون ان يعرف أحد هويته، او يستطيع تعقبه.
الشركتان هما شركة “كليجز” بمدينة ميونخ الألمانية التي تنتج متصفحا بالاسم نفسه، والثانية شركة إيفايدون بمدينة نيويورك الامريكية التي تنتج اداة برمجية لمنع الإعلانات من الظهور اثناء تصفح الانترنت تحمل اسم “جوسترى” ويتم تركيبها كملحق اضافى لبرامج التصفح لمن يريد استخدامها.
في فبراير 2017 عقدت الشركتان صفقة تم بموجبها استحواذ شركة كليجز على الأصول والأعمال الخاصة بتقنية “جوسترى” من شركة إيفايدون، وبموجب هذا الاستحواذ انتقل إلى حوزة كليجز 10 ملايين مستخدم نشط، قاموا بتنزيل وتركيب “جوسترى” على حاسباتهم المكتبية والمحمولة وهواتفهم المحمولة.
بعد هذا الاستحواذ تم دمج تقنية جوستري الخاصة بإيقاف ومنع الإعلانات من الظهور أمام المستخدم وهو يتصفح الانترنت أو يمارس أية أعمال أخرى على الشبكة، مع تقنية كليجز الرئيسية المحورية الخاصة بمقاومة عمليات تعقب المستخدم ومحاولة جمع بيانات عن سلوكه على الإنترنت، وباتت التقنيتان تعملان من خلال متصفح كليجز، الذي يجعل المستخدم كالشبح، مجهول الهوية بالنسبة لأي طرف ثالث، خارج معادلة العلاقة المكونة من “المستخدم ـ المتصفح”.
بعد إتمام الصفقة، لم يتوقف الأمر عند عند حدودها المادية أو التقنية، بل شمل ما يمكن وصفه بالجانب الفلسفى الفكري، الذي يرفض ويمقت أن تكون الإنترنت متصادمة علي طول الخط مع إنسانية الإنسان وحقه في الخصوصية، لذك مضت جهود الشركة بعد صفقة الاستحواذ تحت شعار “الويب الإنسانية”.
خلال السنوات الماضية نمت حركة الويب الإنسانية، التي يعد محرك كليجز احد محاورها الرئيسة، ولا تزال تناضل من اجل الهدف نفسه، وقد لخص جون شميتز مؤسس شركة كليجز هذا الجانب في كلمة منشورة على موقع الشركة بقوله أنه والعاملون بشركته وهم يسعون لتطوير تقنية جوسترى كانوا يسعون إلى تحقيق “الويب الإنسانية”، التي تدافع عن الخصوصية الفردية على الإنترنت بلا هوادة، وتسعى للتقيد والتوافق مع أكثر قوانين حماية البيانات صرامة في العالم وفى مقدمتها القوانين الألمانية، انطلاقا من أن المستخدم الفرد من حقه أن يتحرك بحرية عبر الويب، بلا مضايقة أو إزعاج على الإطلاق من جانب المعلنين، ولا قلق على الإطلاق من وجود طرف ثالث أو رابع أو أكثر يتعقب سلوكه ويجمع بياناته وينتهك خصوصيته.
مضى شميتز في شرحه لهذا التوجه قائلا: نحن ننطلق من موقف مناقض تماما لما تفعله شركات الانترنت الكبري وعلي رأسها جوجل ومايكروسوفت وأمازون وغيرهم، فهذه الشركات وغيرها تعتمد بالأساس على امتلاك “ملف تعريفي” دائم وكامل وشامل للمستخدم، يضم كل بياناته ويتعقب كل سلوكياته طوال الوقت، ويقوم بتحليلها واستخلاص النتائج منها، وتحويلها إلى مادة مفيدة قابلة للتوظيف تجاريا أو خلاف ذلك.
أما الويب الإنسانية فهى ترفض مبدئيا وجود “الملف التعريفى” رفضا باتا مطلقا، لكونها تنطلق من ضرورية الدفاع بلا هوادة عن الخصوصية، وبالتالى فإن متصفحات كليجز وإضافات جوسترى مصممة لأن تحذف آليا وأولا بأول اية بيانات تعريفية أو دالة على هوية المستخدم، لتجعل البيانات المجمعة مجهلة كلية، ولا تشير لأي شخص بعينه من قريب أو بعيد.
لو قمت بمراجعة التقييمات الخاصة بمتصفحات الويب المختلفة من منظور حماية الخصوصية، ستلاحظ أن متصفح كليجز مصنف علي أنه متفوق بمراحل في حماية الخصوصية، ففي حين أن الغالبية الساحقة من المتصفحات لا يوجد بها فهرس خاص تمارس من خلاله أعمالها، ومن ثم يكون هناك احتمال بأن تمرر العناوين الرقمية للمستخدمين الى مقدمى خدمات البحث ـ كجوجل ـ مما يجعل من السهل تعقب سلوك المستخدمين، أما كليجز فله فهرسة الخاص ومحرك البحث الخاص به، وبعد الاستحواذ على جوستري أصبح يمتلك تقنيته الخاصة بمقاومة التعقب، التي لا تعتمد على قوائم المنع السوداء، كما هو الحال مع خدمة “ديس كونيكت” مثلا، وبالتالى لا يرسل طلبات لأحد ولا يمرر معلومات لأى طرف ثالث، بل يحقق الويب الإنسانية بجانبيها ـ تفادي الإعلانات ومنع التعقب ـ من تلقاء نفسه.
وعلى الرغم من أن متصفح كليجز يتضمن حقلا للبحث وآخر للعناوين أعلي نافذة التصفح، إلا أنه يتعامل مع جميع المدخلات التى توضع في هذين الحقلين، وكذلك بيانات زيارات المواقع باعتبارها “حوادث فردية منفصلة”، ولا يقوم مطلقا بدمج البيانات من ادخالات متعددة او زيارات متعددة، ولا يحاول رسم نتائج حول مستخدميه، ولا يقوم بتضمين إي بيانات شخصية مثل العنوان الرقمى وعنوان البريد الالكترونى مع اي حدث أو سلوك او اجراء يقوم به المستخدم علي الويب، وبالتالى فهو ينفذ عملية تجهيل كاملة لشخصية المستخدم، ويحوله الي شبح بالمعني الحرفي للكلمة.
يتمتع كليجز بمرونة واضحة فى ضبط إعدادات العمل عليه، فهو يترك للمستخدم حرية اتخاذ قراره فى تشغيل أو إيقاف ما به من مزايا، وكل هذه الوظائف والمزايا القابلة للتشغيل والإيقاف مجمعة فى فئة من أوامر الضبط والتشغيل تحمل عنوان “الويب الإنسانية”، بما يتيح تشغيلها معا أو ايقافها معا من ضغطة واحدة.
تشير المراجعات التى اجريت على متصفح كليجز الجديد إلى أنه قابل للعمل بتوافق تام مع جميع إصدارات نظام تشغيل الويندوز والماكنتوش، ومتوفر أيضا للهواتف الذكية، ويمكن استخدامه من خلال تنزيل وتركيب نسخة كاملة منه ليعمل كمتصفح مستقل قائم بذاته، كما يمكن استخدامه كأحد امتدادات وملحقات متصفح فايرفوكس الذى يعد المنتج الرئيسى لشركة موزيلا، ومتصفح كروم من جوجل.
في الفترة الأخيرة، طور رواد فكرة “الويب الإنسانية” من تكتيكاتهم، ونقلولها من الحماية والدفاع إلي الهجوم، فشكلوا ما أطلقوا عليه “شبكة الإنترنت الإنسانية” وهي تقنية مفتوحة المصدر، ومفتوحة للجميع للمشاركة فيها، ويساهم مستخدموها بما لديهم من معلومات وبيانات تتعلق بأجهزة التتبع والمواقع الإلكترونية التي تمارس سلوك التتبع، وكذلك استعلامات البحث التي يتم تحليلها وتقييمها فيما بعد من أجل استخدام هوية وشخصية المستخدمين لأغراض تجارية أو غير تجارية، وتُستخدم هذه البيانات لإنشاء نماذج مجموعات مجهولة المصدر تدعم تقنيات البحث السريع الخاصة ومكافحة التعقب ومكافحة التصيد الاحتيالي.
وكإجراء احترازي إضافي للسلامة ، يتم إرسال هذه المعلومات عبر شبكة “بروكسي الويب الإنسانية” ، وهي سلسلة من خوادم “بروكسي” العاملة بتقنية نظير إلى نظير، التي تزيل معلومات مثل العناوين الرقمية الخاصة بالمستخدم ، مما يجعل من المستحيل تقريبًا تحديد من أو من أين تأتي البيانات، وشبكة الوكيل نفسها عمياء عن محتوى البيانات التي ترسلها ، مما يضيف مزيدًا من الإجراءات الأمنية إلى العملية. وبالتالي ، فإن جميع البيانات التي تجمعها الشبكة لا يمكن التعرف عليها فعليًا من قبل أي شخص ، بما في ذلك القائمين علي الشبكة.
وتتضمن البيانات التي يمكن للمشاركين في شبكة الويب الإنسانية جمعها وارسالها للشبكة عناوين يو آر إل غير الخاصة، واستعلامات البحث مع صفحات نتائج محرك البحث التي لا تراعي الخصوصية، وعناوين يو آر إل المشبوهة التي قد تكون مواقع تصيد احتيالي، والمعلومات المتعلقة بأجهزة التتبع الآمنة وغير الآمنة، والمعلومات المتعلقة بانتشار وأداء أجهزة التتبع التي تنتهك خصوصية المستخدمين.
تزايد نطاق تأثير الويب الإنسانية خلال الفترة الأخيرة، حتي ان شركات المتصفحات الكبرى، بل وشبكات التواصل الاجتماعي، بدأت تهتم بما تقول به، بدليل أن مفاهيم عدم التتبع، بل وتقنية جوستري نفسها أو اشباهها بدأت تجد طريقها للاستخدام في متصفحات مثل كروم وفاير فوكس، والوضع على هذا النحو يعني أن الجهود الفكرية والتقنية المستندة لقيم “إنسانية”، استطاعت أن تجبر العمالقة الكبار فى عالم المتصفحات على الانصياع لهما، والقبول مضطرين بفتح متصفحاتهم واسعة الانتشار لتطبق فكرة “الويب الإنسانية”، وهو ما يضعنا أمام نموذج حي لآليات “التصحيح الذاتى” التى يقوم بها مجتمع الإنترنت لإصلاح جوانبه السلبية.
كاتب صحفي
|
خلال السنوات الأخيرة جعلت الإنترنت مستخدمها مكشوفا قابلا للتعقب، وجعلت خصوصيته عرضه للانتهاك وانسانيته عرضه للهدر، وكيانه عرضه للتحول الي سلعة تباع وتشترى طوال الوقت.
يبحث مفهوم “الويب الإنسانية” عن آلية مضادة لكل ما يخصم من إنسانية الإنسان، ويحد من خصوصيته، ويعتبر أن الويب الإنسانية لابد وأن تبدأ بالمستخدم الشبح، الذي يصول ويجول عبر الشبكة طوال الوقت، دون ان يعرف أحد هويته، او يستطيع تعقبه.
استطاعت الجهود الفكرية والتقنية المستندة لقيم “إنسانية”، أن تجبر العمالقة الكبار فى عالم المتصفحات على الانصياع لهما، والقبول مضطرين بفتح متصفحاتهم واسعة الانتشار لتطبق فكرة “الويب الإنسانية”، وهو ما يضعنا أمام نموذج حي لآليات “التصحيح الذاتى” التى يقوم بها مجتمع الإنترنت لإصلاح جوانبه السلبية.