جمال محمد غيطاس
قد تبدو فكرة اختفاء الهاتف المحمول واندثاره صادمة وعبثية، وغير مقبولة على طول الخط، بالنسبة لمئات الملايين الذين يستخدمونه حول العالم، لكن عالم التقنية علمنا أنه لم توجد بعد التقنية او المنتج او الأداة التي يكتب لها الخلود على حال واحدة، مهما طال بها العمر، وبلغت من مكانة، واستحوذت على مساحات واسعة من عقول وقلوب الملايين.
والهاتف المحمول ليس استثناء، ويمكنني القول أنه بدأ رحلة الانتقال إلى طور جديد، سيحوله خلال سنوات إلى “كومة أنقاض”، يخرج من تحتها أشياء جديدة، ليس من بينها الهاتف كما نعرفه الآن، والعديد من الشواهد تدفع إلي القول بأن هذا الأمر سيحدث في الأغلب خلال العقد الثالث من القرن 21، أي بين 2021-2030،ويظهر جليا خلال العقد الرابع، أي خلال الفترة من 2030-2040.
هناك من الخبراء من يؤصل هذه الفرضية نظريا في أن المحمول سيتفتت لترثه الاجهزة القابلة للارتداء، كالساعات الذكية، وسوارات المعصم، وخواتم الأصابع، وسماعات الاذن فائقة الخفة غير المرئية، واجهزة تتبع اللياقة البدينة والحالة الصحية، والنظارات الذكية التي تتوافق كلية مع تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز، وأدوات انترنت الأشياء، لتذهب “فتافيته” وتسكن كل منها في واحد أو أكثر من هذه الأدوات “القابلة للارتداء”، فالمعالج ووحدة التخزين والتطبيقات وبعض من وظائف الشاشة ستذهب إلى الساعة الذكية، والكاميرا والجزء الاكبر من وظائف الشاشة سيذهب إلى النظارات الذكية، والميكروفون وسماعات الرأس وكل ما يتصل بالصوت وتشغيله سيذهب إلى سماعات الأذن الذكية.
والحقيقة أن هناك الكثير من الأسس التي تدعم هذه الفكرة، بعضها نظري والآخر عملي واقعى، فمن الناحية النظرية البحتة، يعتبر الهاتف المحمول أداة تجمع بين العديد من الوظائف، من دون أن يكون لديه القدرة على التعمق فيها جميعا، في حين أن الاجهزة القابلة للارتداء تعمل جميعها بصورة تخصصية على وظيفة أو مجموعة وظائف متشابهة، بصورة أعمق وأكثر تفصيلا مما يقوم به الهاتف المحمول، بل وتتجاوزه بمراحل من حيث الكفاءة، مما يجعلها بديلا محتملا بل وحتميا له على المدى الطويل.
على المستوى العملي، هناك عوامل كثيرة تدعم هذه الفكرة، اولها الانتشار الواسع لتقنيات الذكاء الاصطناعي وتفريعاته المختلفة كتعلم الآلة والتعلم العميق، الذى جعل بالإمكان نشر مستويات غير مسبوقة من الذكاء، والقدرة على التشغيل الذاتي في أجهزة صغيرة متعددة المهام وقابلة للارتداء وليس الإمساك باليد كالمحمول،
ثانيها التطور الصاروخي في قدرات الحوسبة أو ” المعالجات ” والتي جعلت من المعتاد وضع معالج ثماني المحاور في ساعة ذكية حول معصم اليد، وفى مجال التخزين والذاكرة الالكترونية، الذي وصل بالأمور إلى تخزين تيرابايت من البيانات في شريحة تندمج فيها قدرات التخزين وقدرات الذاكرة “الرام” في كيان واحد، موضوع في مساحة فائقة الصغر.
وثالثها أن الجيل الخامس للشبكات المحمولة دخل عمليا مرحلة التشغيل التجاري، وهى شبكات السيادة فيها للبيانات وانترنت الاشياء، التي تعمل وتتواصل بين بعضها البعض، لتحقق نوعا من البيئة الاتصالية الشخصية المتكاملة المترابطة، التي تقدم للمستخدم تسهيلات وخبرات لا قبل للهاتف المحمول وحده بتحقيقها .
بدأت السوق تشهد ظهور العديد من الاجهزة والأدوات التي تعد تجسيدا حيا لفكرة تفكيك وظائف الهاتف المحمول وتقديم بدائل مغايرة له، فمثلا شركة ” معامل دوبلر” أعلت منذ فترة ليست بالقليلة، عن منتج جديد يطلق عليه ” وان هير ” أو هنا واحد، وهو يبدو كسماعة يتم ارتداؤها داخل الاذن، لكنه اول نظام حوسبة كامل يتم وضعه بالأذن، فهو يحتوى على تقنية خاصة لمعالجة الصوت من خلال معالجات دقيقة متعددة المحور، والعديد من مكبرات الصوت، ويمكن من خلال هذا النظام التحكم في اعداد او تهيئة ما تسمع، فمثلا يمكنك أن تطلب ايقاف صوت صراخ طفل يصرخ بجوارك، فتسمع كل شيء ما عدا صراخ الطفل، وبعد ظهور سماعات ابل وسامسونج وجوجل وسوني الذكية، دخلت مثل هذه الوظائف في طور “الخواص الاعتيادية”.
فى مثل هذه الأجهزة، تتكامل قدرات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة مع قوة الحوسبة وسعة التخزين العالية مع سماعة أذن تعمل بمعالج عالي الأداء، وغيرها من التقنيات الاخرى، وهذا ما لا يستطيع الهاتف المحمول القيام به، ومع انتشار هذه السماعات على نطاق واسع مستقبلا، لن تستطيع شركات تصنيع الهواتف المحمولة ولا مستخدميها تجاهل ما تقدمه من مزايا إضافية، ولن يكون هناك حل سوى نقل كل الخصائص والوظائف المتعلقة بالصوت داخل الهاتف المحمول إلى هذه السماعات، لتحل السماعة محلها كلية في النهاية.
القضية لا تتوقف عند هذه السماعات فقط، فإذا كان بالإمكان مثلا النظر الى شاشة في الساعة الذكية بدلا من الهاتف المحمول لمعرفة طالب المكالمة، أو للبحث عن الاسماء والعناوين، فمعنى ذلك أن الساعة الذكية تقوم بالوظيفة نفسها التي تقوم بها شاشة الهاتف الذكي ووحدة التخزين الخاصة به وكذلك نظام التشغيل، بطريقة أكفأ وأسهل وأبسط، طالما أن الساعة في معصم اليد.
وإذا تطورت الساعة الذكية أكثر لتلامس وربما تتفوق على قدرات معالج ووحدة تخزين نظام تشغيل الهاتف المحمول ـ وهذا بدأ يحدث بالفعل ـ فما الحاجة إلى الهاتف الذكي بصورته الحالية إذا كانت الساعة الذكية ستقدم وظائف اكثر، كنقل حالة نبض القلب وقياس الكثير من القراءات الحيوية الخاصة باللياقة البدنية، ونقل التنبيهات الواردة عبرا التليفون عبر نبضات خفيفة تلامس منطقة الجلد الملتصقة بالساعة؟
وتمثل المساعدات الشخصية العاملة بالأوامر الصوتية واحدة من أبرز التطورات الداعمة لسيناريو تفتيت المحمول، وما فعله مساعد جوجل، ومايكروسوفت كورتانا، وابل سيرى، وامازون ايكو في هذا المجال يعد ثورة حقيقية، تمثل عاملا مهما من عوامل التوجه نحو تفكيك المحمول، فأبل زودت سماعة أذن الطرازات الجديدة من هواتف آي فون بمعالج دقيق، يشعل تطبيق ذكاء اصطناعي ويضع نسخة من المساعد الصوتي “سيرى” في السماعة وليس في الهاتف، ليجعل الامر يتم كلية من خلال الحوار الصوتي بين الشخص وسماعته، دون الحاجة للنظر لشاشة الهاتف المحمول، أي تجعل المستخدم يتحدث إلى الادوات التي يرتديها بدلا من التحديق في شاشة هاتفه المحمول ليقرأ ويختار الأوامر.
تطورت النظارات الذكية على نحو مذهل، وباتت مشروعات فيس بوك وجوجل وابل وسناب شات، وغيرها قاب قوسين أو أدني من الانطلاق بقوة في عالم النظارات الذكية المرتبطة بشبكات الهواتف المحمولة والتي يتمازج فيها العالم الواقعي، مع الواقع المعزز والافتراضي، وباتت شاشة الهولوجرام الأمامية على قدر من النضج، يجعلها على بعد خطوات بسيطة من العمل كبديل لشاشات المحمول، ليتم من خلالها عرض أفلام الفيديو والألعاب والمستندات والتطبيقات وغيرها من الأمور التي تجري على شاشة الهاتف.
هذه الرؤية حول الحوسبة الشخصية ستظل شخصية بصورة كثيفة، فلن يوجد حولنا احد يسمع مساعداتنا التخيلية وهى تتحدث الينا، او يشعر باللمسات او يرى المعلومات البصرية التي تصب مباشرة امام اعيننا من النظارات الذكية، مما يعني أن تفتيت المحمول، لن يكون بأي حال من الأحوال مصحوبا بشروخ تخدش الخصوصية وحماية البيانات الشخصية.
كل هذه المؤشرات تقول أننا امام احتمال بأن يتفتت الهاتف المحمول ويتفرق ” دمه” بين هذه القبائل الذكية الجديدة التي بدأت تتغلغل في حياتنا ويزداد معدل ارتداءنا لها بمرور الوقت، وسيكون بينها جميعا نوعا من التواصل والتكامل السلس، الذى يجعل الهاتف المحمول بصورته الحالية مجرد ذكرى.
كاتب صحفي
|
المحمول سيتفتت لترثه الاجهزة القابلة للارتداء، كالساعات الذكية، وأساور المعصم، وخواتم الأصابع، وسماعات الاذن فائقة الخفة غير المرئية، واجهزة تتبع اللياقة البدينة والحالة الصحية، والنظارات الذكية، لتذهب “فتافيته” وتسكن كل منها في واحد أو أكثر من هذه الأدوات “القابلة للارتداء”.
بدأت السوق تشهد ظهور العديد من الاجهزة والأدوات التي تعد تجسيدا حيا لفكرة تفكيك وظائف الهاتف المحمول وتقديم بدائل مغايرة له، تكامل قدرات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة مع قوة الحوسبة وسعة التخزين العالية، وهذا ما لا يستطيع الهاتف المحمول القيام به.
مؤشرات عديدة تقول أن احتمال تفتت الهاتف المحمول وتفرق “دمه” بين قبائل الاجهزة الذكية الجديدة بات قريبا وعند تحققه سيجعل الهاتف المحمول بصورته الحالية مجرد ذكرى.