جمال محمد غيطاس
انتشار الكود المنخفض واللا كود، واندثار المبرمج الصرصار، مشهدان كبيران قائمان حاليا في صناعة تقنية المعلومات، يمكن للمتابع ملاحظتهما، وهما يمضيان بسرعة في طريقين متعاكسين، يفضيان إلي نتيجة محتومة، وهي أن الأول سينهي وجود الثاني… كيف؟
لنتعرف أولا على طبيعة كل مشهد من المشهدين، جنبا إلي جنب مع بيئة العمل الحالية التي تضمهما معا.
الكود المنخفض
الكود المنخفض واللا كود، هو نهج في صناعة البرمجيات، تجسده أعمال ومنصات البرمجة، التي توفر عددا كبيرا متنوعا من المكونات البرمجية النمطية السابقة الإعداد، اللازمة لبناء البرامج والتطبيقات المختلفة، مثل مكتبات النماذج البرمجية لهيكلية البرامج والتطبيقات وقواعد البيانات، ومكون أمن المعلومات، ومكون دورات العمل، ومكون إجراءات الاعمال، ومكون الواجهات الأمامية، ومكون الواجهات الخلفية، ومكون أدوات تحليل وعرض البيانات، وغيرها.
يتم توفير هذه المكونات جميعا في صورة مكتملة، قابلة لأن يتم التعامل معها من خلال أدوات لتطوير وبناء البرمجيات، من خلال واجهات تفاعل رسومية سهلة، لا تحتاج سوي فهم بعض أوامر التشغيل، والربط مع غيرها من المكونات، عبر خطوات متسلسلة محددة سلفا، مما يقلل احتياج القائم بالتطوير إلى كتابة الاكواد البرمجية إلي أقصي درجة، أو يلغيها تماما.
ومن هنا اطلق عليها “الكود المنخفض أو اللاكود”، حيث يكون مطلوبا من القائم ببناء التطبيق أو البرنامج، أن يمتلك رؤية واضحة حول طبيعة التطبيق وأهدافه، وطريقة تشغيله في بيئة العمل القائمة، ثم يستخدم المكونات والأدوات المتاحة له التنفيذ.
المبرمج الصرصار
أما المبرمج الصرصار، فمفتاح الاقتراب منه هو سمات الصرصار نفسه، كعضو في عالم الحشرات، يعرف عنه أنه يعيش منغلقا على نفسه، مفصولا عن محيطه، ويمشي منفردا، معتمدا على قرنيه، اللذين يتحسس بهما طريقة وحيدا، فيقع دوما تحت نعل اول حذاء يقابله، لاقيا حتفه مسحوقا، فيندثر بلا أثر.
علي هذا النسق “الصرصاري”، يوجد في عالم البرمجة المطور أو المبرمج، الذي يمضي في عمله منغلقا على نفسه، مفصولا عن محيطه، يأنف العمل الجماعي، والبيئة التشاركية التعاونية، ويهرب من المعرفة المفتوحة، ويتصور عمله إلهاما وكهنوتا يتعين حجبه عن الآخرين، منذ اللحظة التي يطرأ فيها على الذهن كخاطرة، أو فكرة طائرة، وحتي ينتهي ناضجا جاهزا للعمل، بعد فترة لا يهم ان تطول أو تقصر، لأن المهم أن يخرج كصندوق أسود، مليء بالتعقيدات، وحافل بالأكواد، ولا يعلم أسراره إلا هو، ولا يملك مفاتيح تشغيله إلا من يمنحه هو الإذن، ويظل الأمر برمته معلقا في رقبته، وهذه المجموعة من السمات، تضع بين أيدينا مبرمجا أو مطورا له عقل يحمل سمات عقل الصرصار.
بيئة العمل
في المقابل فإن الساحة الحالية التي يعمل بها الكود المنخفض واللا كود، والمبرمج الصرصار، باتت عبارة عن بيئة عمل سريعة التغيير والتبديل ، على مدار اليوم أو الأسبوع أو الشهر، نتيجة ضغوط يفرضها وباء مثل كورونا، او منافسة من اطراف جدد، او تغير في ذائقة وتفضيلات العميل والزبون، أو تسارع في حركات التحول الرقمي والحياة الذكية، أو التداخل بين الأهداف والأدوات والمخاطر.
الطبيعة الحالية لبيئات العمل، جعلت من المحتم أن تستند إلي قيم الانفتاح والمشاركة والتعاون المستمر بلا انقطاع، بل والتخلي عن قدر كبير من الحقوق والمسئوليات لصالح المستخدم ولصالح شركاء العمل، الذين باتوا يشكلون فريقا عريضا من المتشاركين المتعاونين معا، في إطار شفاف مفتوح على محيطه، ومتفاعل مع أطرافه الداخلية والخارجية، وقائمة على التفكير والابداع اللحظي، والتطوير أثناء التشغيل، ولا مكان فيها للحجب، واعمال الكهنوت والانغلاق والسرية والفردية.
تعمل هذه القيم من أجل توفير آليات سريعة مبدعة، قادرة على التعامل مع المجهول والجديد والطارئ، الذي تصطدم به بيئة العمل سريعة التغيير، والمعرضة دوما لتحديات ومخاطر يصعب توقعها.
لو وضعنا مفهوم الكود المنخفض واللا كود، وجها لوجه مع عقلية المبرمج الصرصار، وفي خلفيتهما بيئة العمل الجديدة الحالية، في صناعة البرمجة وعالم الأعمال، سنجد أن نهج الكود المنخفض واللا كود، يتناسب ويدعم ويتوافق على طول الخط، مع طبيعة بيئة العمل الحالية والمقبلة، وتحدياتها وطموحاتها، والمبرمج الصرصار يتناقض ويتصادم معها على طول الخط، ويعرقل تقدمها، ويضعف قواها، ويحد من قدرتها على المرونة وخفة الحركة في استيعاب وهضم مخاطرها وتخفيف أعبائها.
وتقدم العديد من الدراسات مؤشرات على أن هذا الامر بات يحدث فعليا الآن وليس غدا، وفي هذا السياق، توقعت دراسة فورستر أن تنمو سوق تطبيقات وبرمجيات الكود المنخفض واللا كود بنسبة 40٪ سنويًا لتصل إلى 21 مليار دولار بحلول عام 2022 ، بينما توقعت مؤسسة جارتنر أن تستحوذ منصات التطبيقات منخفضة الكود واللا كود على 65٪ من جميع عمليات تطوير التطبيقات بحلول عام 2024، وتستند هذه التوقعات إلي ما توفره هذه النوعية من منصات البرمجة، من فوائد جمة للشركات الصغيرة والمتوسطة، وجانب من أعمال الشركات الكبيرة، تتمثل في قصر مدة التطوير، وقلة تكلفتها، واعتمادها على موظفين يمتلكون خبرات عالية في مجال عملهم، وخبرات أساسية أو محدودة للغاية في مجال البرمجة، مما يسرع من فترة وصول المنتج للأسواق، والدفع بالحلول التقنية السهلة الفعالة إلي بيئات الاعمال بسرعة كبيرة، وفي الوقت المناسب.
من جانب آخر ، رصدت هذه الدراسات صعودا صاروخيا لمنصات تطوير التطبيقات بمفهوم الكود المنخفض واللاكود، والمنافسة بينها تشتد بحسب ما تقوله جارتنر، ومن أبرزها منصة “إيفوك” لتطوير التطبيقات المنخفضة الكود، في مجال الأعمال والتطبيقات التجارية والصناعية، وهي من انتاج شركة برمجيات تدعي : بلو إنفنتي”، التي تقول أن منصتها صممت لمساعدة الشركات على نشر التطبيقات بسهولة عبر الأجهزة المختلفة، دون الحاجة إلى الكود، فبدلاً من كتابة كل سطر من التعليمات البرمجية لتطبيق معين، يمكن لمستخدمي النظام الأساسي ذي التعليمات البرمجية المنخفضة أو بدون رمز إنشاء مشروعهم باستخدام واجهات التأشير والضغط على المفاتيح، بما يتيح لغير المبرمجين، من الناحية النظرية ، تجميع كتل التعليمات البرمجية المحددة مسبقًا، لإنشاء برنامج مخصص ، بسرعة وبتكلفة أقل بكثير من التعاقد مع مبرمج محترف.
وهناك أيضا منصة “دي إس بي كونسبتس” المتخصصة في بناء تطبيقات الصوت منخفضة الكود، ويقول بول بيكمان الشريك المؤسس للشركة، أن جاذبية منصة الشركة تزداد، لأن الكثير من مهندسي الصوت يمتلكون آذانًا ذهبية، لكنهم لا يمتلكون إمكانات التكويد اللازمة لبناء ما يحتاجونه من تطبيقات، لذلك نحن نوفر لهم أدوات سهلة الاستخدام تمكنهم من بناء تطبيقاتهم بسرعة دون حاجة لمهارات برمجية.
وهناك ايضا منصة “ستوديو جرافين”، التي صممت لخدمة الشركات الناشئة في المجالات المختلفة، من اجل مساعدتها على بناء منتجات وخدمات رقمية سريعة تخدم اعمالها، وبحسب ريتام غاندي مؤسس المنصة، فإن رواد الاعمال في مختلف التخصصات، يتجولون كل يوم، ويتعرفون على تطبيق يمكنهم استخدامه، لكنهم لا يملكون المهارات أو الميزانية اللازمة لإنشائه، وهذا ما تفعله لهم المنصة، التي تجعلهم يحصلون على التطبيق الذي يريدون في وقت قصير بتكلفة بسيطة.
يؤكد أصحاب هذه المنصات على أن توجه الكود المنخفض واللا كود، لن يؤدي لاختفاء المبرمجين المحترفين، بل سيغير المشهد، بحيث يكون المبرمجون المحترفون مسئولون عن تطوير الأدوات والمكونات البرمجية السابقة الاعداد، ويتركون لمتخصصي الأعمال وذوي المهارات البرمجية المنخفضة، استخدام هذه الأدوات والمكونات في بناء البرامج والتطبيقات.
في النهاية .. يمكننا القول أن الكود المنخفض واللا كود من جهة، والمبرمج الصرصار من جهة ثانية، نقيضان لا يستقيم، ولم يعد ممكنا أن يوجدا معا في ساحة واحدة من النمط البازغ حاليا، والمتوقع أن يسود مستقبلا، والنتيجة المحتومة أن الأول سيسحق الثاني، فنهج الكود المنخفض واللا كود، يفتح أبوابا عريضة، للعمل والابداع والحيوية والحياة والعمل الجماعي التعاوني التشاركي المفتوح امام المطورين والمبرمجين والمستخدمين وأطراف العملش، بينما يحفر الثاني قبرا عميقا موحشا كل لحظة، لكل مبرمج يصر على العمل بعقلية الصرصار، من دون الانتباه إلي أنه سيسحق تحت حذاء أول تحد يقابله.
كاتب صحفي
|
يوجد في عالم البرمجة المطور أو المبرمج، الذي يمضي في عمله منغلقا على نفسه، مفصولا عن محيطه، يأنف العمل الجماعي، والبيئة التشاركية التعاونية، ويهرب من المعرفة المفتوحة، ويتصور عمله إلهاما وكهنوتا يتعين حجبه عن الآخرين
نهج الكود المنخفض واللا كود، يفتح أبوابا عريضة، للعمل والابداع والحيوية والحياة والعمل الجماعي التعاوني التشاركي المفتوح امام المطورين والمبرمجين والمستخدمين وأطراف العمل
الطبيعة الحالية لبيئات العمل، جعلت من المحتم أن تستند إلي قيم الانفتاح والمشاركة والتعاون المستمر بلا انقطاع، بل والتخلي عن قدر كبير من الحقوق والمسئوليات لصالح المستخدم ولصالح شركاء العمل، الذين باتوا يشكلون فريقا عريضا من المتشاركين المتعاونين معا، في إطار شفاف مفتوح على محيطه، ومتفاعل مع أطرافه الداخلية والخارجية