جمال محمد غيطاس
أخشى أن تنتهى الموجة الحالية للحديث عن “التحول الرقمي” إلي ما انتهت إليه موجات من الأحاديث المماثلة التى سرت في الماضي وانفلتت فغدت ” مولد” وليس عملية تنموية مدارة، قادرة علي تحقيق أهدافها، لماذا هذه الخشية .. ارجو قراءة التفاصيل التالية.
في عام 1998 جلست مع اكثر من مائتي صحفي من مختلف انحاء العالم، تجمعوا في نيويورك للاستماع الي “لو جريستنر” الرئيس الاسطوري لشركة اي بي إم، اعرق شركات التقنية متعددة الجنسية، التي تعمل منذ اربعينيات القرن الماضي، والذي تولي الشركة قبلها بأعوام فأقالها من عثرتها وقفز بها حتي وصلت قيمة اسهمها لمستويات قياسية، دفعت الشركة لتقسيم السهم لفئتين حتي تستطيع اعداد اكبر من الافراد شراؤه.
حضر الرجل وبدأ يتحدث عن التسعة “إي”، أو الحلول والنظم التقنية التي تبدأ بحرف إي E بالإنجليزية، وهي الحكومة الالكترونية، والتعليم الالكتروني، والصحة الالكترونية والزراعة الالكترونية والسياحة الالكترونية والثقافة الالكترونية والصناعة الالكترونية، وبالطبع التجارة الإلكترونية والاعمال الالكترونية.
لم يستمر الرجل في حديثه اكثر من دقيقتين حتي فوجئنا به يردد كلمة أخرى ثلاث مرات، كلمة تبدأ ايضا بحرف “إي” وهي كفى أو ” Enough”، وقبل ان نفيق من دهشتنا لإقحامه هذه الكلمة المفاجئة في سياق حديثه عن التقنية والمستقبل، استدرك قائلا: اليد العليا في عملية التطور والتغيير يجب أن تكون لسياق الاعمال، أما التقنية واجهزتها وأدواتها وحلولها فيجب أن تكون هي اليد السفلى، وإذا لم يكن الأمر علي هذا النحو فسون نقول كفي “إي نف” سريعا.
هذه الكلمات هى الاكثر صراحة وصدقا بين كلمات من قابلتهم او استمعت لهم أو قرأت لهم وعنهم من قادة التقنية علي مستوي العالم خلال الـ 30 عاما الماضية، ولا تزال تندفع في أذني كما لو كنت اسمعها الآن، فهي تلخص ما تفعله الطاحونة المستمرة لآلات التسويق والعلاقات العامة الجبارة لدي شركات التقنية المتعددة الجنسية والكبيرة حول العالم، ومن يدور في فلكها من الانتهازيين والطفيليين والمتاجرين بالتقنية داخل بلدان العالم المختلفة وعلي الاخص البلدان النامية.
فمنذ ستينيات القرن الماضي واقطاب التقنية حول العالم يقدمون الموجة تلو الأخرى من الشعارات البراقة المختارة بعناية، التي تدغدغ المشاعر، وتفتح الآذان والعيون علي صورة مشرقة باعثة علي البهجة، لما سوف تصنعه التقنية في حياة الناس، من سهولة ورغد ورفاه في العيش.
في البداية كانت موجة الميكنة والاتمتة، وهي موجة ظلت ممتدة منذ الستينيات حتي مطلع التسعينيات من القرن الماضى، ثم ظهر بعدها عصر “الإي” أو التحول الي كل ما يحمل صفة الالكتروني، وهي التسعة “إي” التي اشار لها جريستنر، ومع مطلع الالفية ظهرت موجة مجتمع المعلومات، ومع انتهاء العقد الاول من القرن الجديد بدأ تسويق مجتمع المعرفة، وفيما بينهما جري إطلاق ضجيج عارم حول الفجوة الرقمية، ومنذ عام 2014 بدأت أحدث موجة وهي “التحول الرقمي”.
في هذه الرحلة الطويلة كان الأمر يتعلق دوما بعملية تغيير حالمة وجريئة للمؤسسات والدول والمجتمعات، لم يتغير جوهرها مطلقا، فنحن دوما بصدد عملية تغيير وتنمية تسعي للاتكاء علي التقنية ومنجزاتها وقدراتها، لتسريع الانجاز وتقليل الانفاق ورفع الكفاءة، وكان الفرق بين كل موجة واخرى في التسميات والشكل والمظهر والأدوات لا جوهر الفكرة وأساسها.
كان مفتاح فشل أو نجاح عملية التغيير كلمة وردت في حديث جريستنر وهي “السياق” الذي تزرع وتتحرك فيها النظم والحلول والتقنيات، وفي كل الاحوال كان السياق مقصودا به مجموعة القيم التي يتعين أن تكون موجودة وحاكمة ومقبولة وتحظي بالاحترام في البيئة المطلوب زراعة التقنية بها، وهي قيم الحرية والعدالة والنزاهة والحوكمة والشفافية والتجرد وانسياب المعلومات والمحاسبة والمساءلة والمساواة.
بعد توافر السياق، تأتي مهارات الفهم العميق لهذا السياق من قبل القائمين علي عملية التغيير، ووعيهم بمدي ابتعاده او اقترابه من مجموعة القيم السابقة.
تمثل القيم الحاكمة للسياق، والمهارات التي يتمتع بها القائم بالتغيير ” اليد العليا” التي يتعين أن تكون موجودة، وتكون هناك الإرادة الكافية لفرضها واحترامها، سواء طوعا أو كرها قبل بدء التغيير، وكما هو واضح فإن اليد العليا لا علاقة لها بالتقنية وادواتها واجهزتها ونظمها وبرمجياتها.
في غياب هذه اليد العليا ينقلب الوضع، فيصبح السياق محكوما لا حاكما، مفعولا به لا فاعلا، وتتحول التقنية من وسيلة إلي غاية في حد ذاتها، ومن أداة إلي هدف، فينفتح الباب علي مصراعيه لسوءات بلا حصر، وتصبح مشروعات التغيير والتحول مرتعا لكل شيء، إلا التغيير الحقيقي المنشود، الذي لا يحدث علي نحو سليم إلا نادرا، وكثيرا ما يكون ضامرا، وغالبا لا يتحقق أصلا.
آية ذلك أن عملية التغيير تصبح عمليا ” مولد” لتسويق التقنية والتكسب من ورائها، يختلط فيه الحابل بالنابل، ويسوده الازدحام بلا منطق، والتدافع بلا رؤية، وخلال وقت قصير تصبح الشراهة عنوانه الكبير، بعض هذه الشراهة تنطلق ممن يبيعون المنتجات والنظم، ويربحون ثم يذهبون، وبعضها من الوكلاء والتجار الذي يحصلون علي العمولات ممن يبيع وممن يشترى ويسمنون ويغنون ويمتصون مجتمعهم، وبعضها من محترفى الانشطة الطفيلية، ممن ينتهزون الفرصة للتهليب والتكسب، فيحومون حول من يبيع ومن يشتري، وللأسف تنتشر هذه الفئة الاخيرة بالأساس في كل ما يطلق عليه إعلام وإعلان، بدءا من الصحف والقنوات التليفزيونية، وانتهاء بالمعارض الرنانة.
في النهاية ينفض المولد وتنكسر الموجة، ويجري التحضير لموجة تالية، ودائما الخاسر الأكبر عملية التغيير الحقيقي، والنقلة المبتغاة، التي كان يفترض أن تنقل المجتمع بمؤسساته وناسه إلي وضعية أفضل، تخطو به خطوة راسخة نحو تنمية مستدامة مستقلة معتمدة علي الذات، يجري فيها توظيف الموارد إلي أقصى حد، وتخفيض الفاقد إلي أدنى حد، ومحاصرة الفساد والاهتراء الاداري بكل حزم.
كاتب صحفي
|
اليد العليا في عملية التطور والتغيير يجب أن تكون لسياق الاعمال، أما التقنية واجهزتها وأدواتها وحلولها فيجب أن تكون هي اليد السفلى، وإذا لم يكن الأمر علي هذا النحو فسون نقول كفي “إي نف” سريعا
كان الأمر يتعلق دوما بعملية تغيير حالمة وجريئة للمؤسسات والدول والمجتمعات، لم يتغير جوهرها مطلقا
مفتاح فشل أو نجاح عملية التغيير هي مجموعة القيم التي يتعين أن تكون وحاكمة ومقبولة وتحظي بالاحترام وهي قيم الحرية والعدالة والنزاهة والحوكمة والشفافية والتجرد وانسياب المعلومات والمحاسبة والمساءلة والمساواة.