بيجاسوس … غانية صنعها الافاعي … وعشقها الاوغاد

جمال محمد غيطاس

في معجم لسان العرب، ورد أن “الغانية” هي الحسناء المستغنية بحسنها عن الزينة، أى التي تملك من الحسن ما يجعلها في غنى عن أدوات الزينة، وهي ايضا الحسناء بائعة الهوى، أما الأفاعي فهي من شرار الحيات الرقشاء، دقيقة العنق عريضة الرأس قاتلة السم، والأوغاد هم الاراذل الادنياء الحمقى ضعاف العقل … تري : ما الذي يحدث لو أن مجموعة من الأفاعي، صنعت غانية، فعشقها الأوغاد؟ إذا اردت معرفة الإجابة إقرأ معي بعضا من تفاصيل قصة الغانية “بيجاسوس”.
“بيجاسوس” ليست امرأة حسناء تغوي زبائنها من الرجال، بل تقنية تجسس عالية الاداء، راقية الإمكانات، في مجال اختراق الهواتف المحمولة وما تتضمنه من أدوات ومكونات وتطبيقات، ومن فرط ما تملكه من قدرات في هذا المجال، لم تحتاج لوسائل جذب أو عرض، أو تتبع تكتيك تسويق ودعاية  ليقبل عليها زبائنها.
منذ ظهورها كانت “بيجاسوس” كاكثر الغانيات حرفية، تتبختر من بعيد، فتنفذ بجاذبيتها ودلالها وجمالها لمراكز شهوة الكثيرين فتفقدهم عقولهم، وتنفتح لها جيوبهم، وهكذا تفعل  تقنية “بيجاسوس” مع الساعين  للتجسس والاختراق، فهي تبدو شيئا براقا رائعا، لأنها تنسل بخداعها لقلب الهاتف، فتطويه تحت جناحها، وتجعله خاتما في أصبعها، فالكاميرا تصبح تحت بصرها واعينها تحركها وتري بها ما تشاء، والميكروفون والسماعة يصبحان كلأ مستباحا لها، تعبث به وقتما وكيفما يحلو لها، وبيانات ومعلومات وصور الهاتف، تكون جميعها عند اطراف اصابعها، تغرف منها ما تشاء وقتما تشاء.
من يدفع مهر “بيجاسوس” ويمتلكها يمتطيها، ويصبح كل ما لديها ملك يمينه، يأمرها فتطيع، ويطلبها فتفتح له جعبتها علي مصراعيها، فتجعل ضحاياها كالحرث الذي يأتيه مالكها وقتما شاء.
تقنية بهذه الروعة الخطرة، والجمال المسموم، لا يصنعها سوي مجموعة من الأفاعي،  وهذا ما حدث بالفعل، فمن قام بإبداعها وتصميمها وانتاجها واختبارها وتشغيلها وبيعها، هم مجموعة من أمهر ضباط جهاز مخابرات الكيان الصهيوني “الموساد”، واجهزة الامن الصهيونية الداخلية “الشاباك” والشين بيت”، إضافة لفريق من الباحثين في أمن المعلومات بجامعات الكيان الصهيوني، وشركات تقنية المعلومات التابعة للقطاع الخاص، حيث قامت هذه المجموعة بإنشاء وتشغيل واحدة من اكثر الشركات الاسرائيلية غموضا في عالم التقنية وهي شركة “إن إس أو جروب” لتنتج الغانية “بيجاسوس”.
من الناحية التقنية البحتة، تعد “بيجاسوس” إبداعا راقيا استثنائيا علي مستوي العالم حتي هذه اللحظة في مجال التجسس والاختراق والرصد والمتابعة، وهتك اسرار الملايين من البشر، ابداع يلقي تقديرا واهتماما واسع النطاق في الكثير من المحافل الدولية من حيث كونه محض ابداع.
لكن عند وضع هذه التقنية والشركة المنتجة لها في السياق العام للمجتمع ، نكون بالفعل أمام تقنية صنعها “الأفاعي”، سعيا وراء المال وربما الإفساد في الأرض.
ما أن خرجت “بيجاسوس” الغانية  من بين أصابع مجموعة الأفاعي، حتي تلقفتها عقول وجيوب ومراكز الشهوة لدى “الأوغاد”، أو الأراذل الادنياء الحمقى ضعاف العقل، بمراكز الحكم والسلطة، ومؤسسات الامن والاستخبارات والجيوش في انحاء العالم المختلفة.
كل وغد من هؤلاء داعبته “بيجاسوس”، سال لعابه، وثارت مراكز شهوة السلطة والاستبداد والتحكم لديه، ففتح خزائن امواله، وعصف بكل ما هو مقيد به من قوانين واعراف وقيم، دفع ثمن واحدة من غانيات “بيجاسوس”، أى اشتري نسخة من هذه التقنية، واطلقها علي خلق الله، تخترق هواتفهم، وتتبع عوارتهم، وتسترق السمع لكل كلمة يقولونها، ولقطة يصورونها، ومكالمة يجرونها، وكلمة يخزنونها، وحينما يأخذه الشوق يطلب “بيجاسوس”، فيمتطيها، لتفتح له جوفها، بما يحتويه من اسرار الناس.
هكذا صارت “بيجاسوس” اسما يطرب له ويعشقه كل شبق للسلطة، مغرم بالاستبداد، مولع بكسر القيم، متلذذ بهتك المستور من اسرار الخلق، وكل منتشي بسحق نفوس من لا يرضي عنهم، أو يراهم منافسيه أو مناوئيه، أو حتي من يأنفونه ويلقونه وراء عقولهم، ذلك لأنها تفتح الابواب المغلقة، والنوافذ الموصدة، خلسة وبخفة، وتضع بين يديه كل ما يرضي غروره، ويجد فيه ما يذل به أعناق البشر، ويبتزهم ويلفق لهم الاتهامات والقضايا.
آخر صولات وجولات “بيجاسوس” الغانية أنها كانت وراء أكبر هجمة اختراق يتعرض لها تطبيق واتس اب طوال تاريخه، والتي وقعت خلال مايو 2019 واضطرت معه شركة “فيس بوك” التي أصبحت مالكة للتطبيق لإصدار بيان ناشدت فيه جميع مستخدمي واتس آب حول العالم بـ “إعادة تحميل التطبيق وتثبيته من جديد علي هواتفهم علي الفور” لأن “بيجاسوس” تمكنت من اختراقه والتجسس عليه، وصدر هذا التحذير لحوالي مليار ونصف المليار شخص حول العالم يستخدمون واتس آب.
غانية واحدة صنعها الافاعي هددت خصوصية مليار ونصف المليار شخص، لصالح جهة مجهولة، يديرها أوغاد من الاراذل الادنياء الحمقى ضعاف العقل.
موقع “بيزنس انسايدر” الأمريكي الشهير المتخصص في التقنية، تتبع ظاهرة “بيجاسوس” بعد الهجوم الناجح واسع النطاق الذي استهدفت به واتس آب، وكشف الموقع عن أن “بيجاسوس” كانت ضالعة  في ممارسات عنيفة وغير آدمية أقدم عليها الأوغاد في اجهزة السلطة بعشرات من دول العالم شرقا وغربا، بات معروفا منهم بنما والمكسيك، والسعودية التي وظفت “بيجاسوس” في واقعة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي بسفارتها تركيا وتقطيع جثته بالمنشار، وايضا لم تتورع عن التجسس علي هاتف جيف بيزوس مؤسس ورئيس شركة أمازون، ونشر صورا تخص علاقة حميمة بينه وبين سيدة غير زوجته، لكن بيزوس كلف فريق بالتحري في الأمر وكشف ما قام به السعوديون كاملا خلال أقل من اسبوع.
تقول شركة “إن إس أو جروب” علي موقعها بأنها تطور تكنولوجيا تمكن أجهزة الاستخبارات الحكومية وأجهزة إنفاذ القانون من منع الإرهاب والجريمة والتحقيق فيهما، وأنها نوفر الأدوات التي تدعم السلطات الرسمية للتصدي بشكل قانوني لأخطر القضايا في عالم اليوم، وتقنية بيجاسوس مصممة لمراقبة واستخراج جميع البيانات من هدف “عبر أوامر لا يمكن تعقبها” تسمح بـ “المراقبة عن بُعد، ويقول الموقع ” “نحن شبح كامل نحن شفافون تمامًا في الهدف ، ولا نترك أي آثار”
وتعليقا علي ما هو منشور علي موقع الشركة، قال الدكتور رون ديبرت  الذي يقود مجموعة مراقبة حقوق الإنسان في “معمل المواطن” بجامعة تورنتو بكندا أن الأمر ليس علي هذا النحو، فهذه التقنية  تستخدم من قبل دكتاتوريين استبداديين يمكنهم القيام بعمليات تجسس إلكترونية عالمية.
الآن يتعامل الكثيرون حول العالم مع “بيجاسوس” كمنتج يستهدف بالمقام الأول مساعدة الحكام علي قمع المحكومين، والتجسس عليهم، تحت ذرائع ولافتات شتي، ترفع شعارات من قبل حماية الأمن ومكافحة الارهاب، وهي في جوهرها ليست سوي وجبة مقدمة علي طبق من ذهب لخدمة الاستبداد  والإفساد.
هذا بعض من فصول قصة “بيجاسوس”، الغانية التي صنعها الافاعي وعشقها الاوغاد .
كاتب صحفي
خبير تقنية
مؤسس مجلة لغة العصر
 

       

 “بيجاسوس” ليست امرأة حسناء تغوي زبائنها من الرجال، بل تقنية تجسس عالية الاداء، راقية الإمكانات، في مجال اختراق الهواتف المحمولة وما تتضمنه من أدوات ومكونات وتطبيقات

من يدفع مهر “بيجاسوس” ويمتلكها يمتطيها، ويصبح كل ما لديها ملك يمينه، يأمرها فتطيع، ويطلبها فتفتح له جعبتها علي مصراعيها، فتجعل ضحاياها كالحرث الذي يأتيه مالكها وقتما شاء

عند وضع هذه التقنية والشركة المنتجة لها في السياق العام للمجتمع ، نكون بالفعل أمام تقنية صنعها “الأفاعي”، سعيا وراء المال وربما الإفساد في الأرض