جمال محمد غيطاس
كيف يمكن التعامل مع النجاح والإنجاز؟ .. الأمر يختلف من مجتمع لآخر ومن مناخ لآخر، فلو كان المناخ استبداديا سلطويا ديكتاتوريا يسحق العقل الجمعي، ويمجد الفرد الاوحد، فستكون هناك حتما صناعة نفاق مزدهرة، تطبل وتزمر بفجاجة وسخف وبلا انقطاع، جاعلة من أي نجاح أو انجاز ذروة عالية من ذري المجد، وسدرة للمنتهي، حتي لو كان انجازا بسيطا، أو نجاحا سطحيا تافها وقتيا لا يستحق الذكر.
ولو كان المناخ حرا عادلا، يحترم العقل ويقيم العدل والمساواة ويسمو بمبدأ المشاركة، فستكون هناك صناعة قوية محايدة، للحوكمة والشفافية والنزاهة، جاهزة دوما للتقييم الموضوعي، والتعامل مع النجاح بما يستحق، بهدوء وتعقل، مهما كان عميقا عالي القيمة ممتد الاثر.
احدث نموذج يجسد الحالة الثانية، ما حدث مع ساتيا ناديلا، مهندس البرمجيات الهندي الاصل، الذي ولد في حيدر اباد، وأصبح الآن الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، أكبر شركات البرمجة عالميا، ووريث مقعد بيل جيتس، مؤسسها ورئيسها الاسطوري لعدة عقود.
اعتلي ساتيا ناديلا منصب رئيس شركة مايكروسوفت، فى وقت كانت تغوص فيه في الرمال المتحركة وتهتز الارض من تحتها، ويضربها منافسوها بقسوة من كل صوب، وتصنف علي أنها ” حالة متصاعدة نحو التقادم” ، بعدما فقدت الريادة والتأثير في معظم مسارات صناعة تقنية المعلومات والبرمجة خلال الالفية الجديدة، فلم تصنع نجاحا مؤثرا في مجال الهواتف المحمولة علي غرار ابل، وفشلت أمام جوجل في نظم تشغيل الهواتف المحمولة ومحركات البحث فشلا ذريعا، ولم تقدم ابداعا قويا في الشبكات الاجتماعية مثلما فعلت فيس بوك وتويتر، فكانت النتيجة ان انكمش ايرادها الرئيسي في نظم ويندوز وحزمة برمجيات اوفيس، وكلاهما بدأت مؤشرات علي دخوله مرحلة الكمون والتباطؤ بعد الاندفاعة السريعة الواسعة للبرمجيات مفتوحة المصدر.
جاء ساتيا ناتيلا ونفذ عملية تغيير عميقة، اعتمدت بالأساس علي ” إعادة التأهيل الثقافي”، الذي حول عقلية الشركة من العقلية الثابتة عند حدود ويندوز وملحقاته، إلي “عقلية النمو” ، التي لا تقف عند حد ، ولا تتصادم مع أحد، فأنشأ قطاعا ضخما للحوسبة السحابية، حقق العام الماضي عائدات قدرها 34 مليار دولار، وفازت خدمة الحوسبة السحابية الاساسية لمايكروسوفت “آزور” بثلاثة من أكبر العملاء البارزين وهم اكسون موبيل عملاق الخدمات البترولية، وول مارت لتجارة التجزئة، وسلسلة مقاهي ستار بكس، فتقدمت علي جوجل ، وتفوقت علي أمازون في بعض المجالات، وهي أكبر شركة خدمات حوسبة سحابية في العالم.
قام ناديلا يتحويل حزمة برمجيات اوفيس للعمل بنموذج “ساس” أو البرمجيات كخدمة القائم علي الاشتراكات عبر الانترنت، فبلغ المشتركين فيه 314 مليون مشترك، يدفع كل منهم 99 دولار كحد ادني سنويا، وهو رقم يفوق عدد المشتركين في خدمة “نيتفليكس” لبث الفيديو بصورة حية عبر الانترنت، وأكبر من خدمتي سبوتيفاي للموسيقي، وامازون برايم مجتمعين، وهو ما جعل ريد هاستنجر رئيس نييتفليكس يقول ” لم أعرف أي شركة برمجيات أخرى في تاريخ التكنولوجيا سقطت في الأوقات الصعبة ثم استعادت عافيتها بشكل جيد مثلما فعلت مايكروسوفت”.
يوم الخميس الموافق 25 ابريل 2020 أعلن خبراء وول ستريت، وخبراء تقييم الشركات وبحوث السوق عالميا، أحدث نتائج تقييم القيمة السوقية لشركة مايكروسوفت، وأكدوا أنها تخطت التريليون دولار، وارتفعت بمعدل 230% عن قيمتها يوم تسلم ناديلا مهام منصبه في فبراير 2014، وبأنها أصبحت الشركة الأعلى قيمة علي مستوي العالم، متفوقة علي ابل وجوجل وأمازون وغيرهم من كبار العمالقة، وبعدها انهالت علي الشركة ومديريها التنفيذيين وفي مقدمتهم ساتيا ناديلا رسائل التهاني احتفالا بوصول الشركة إلي هذه الذروة الرفيعة.
في اليوم التالي الجمعة 26 ابريل 2020، عقد ساتيا ناديلا اجتماعا عاديا من اجتماعاته مع مساعديه، وحينما طرح الحاضرون موضوع القيمة السوقية الاخيرة للشركة، قال كلمات عكست فلسفته ورؤيته في الإدارة والعمل وفهمه لمعني النجاح، وكيفية تقييمه موضوعيا، بلا تضخيم أو تطبيل، فقال : سأشعر بالاشمئزاز إذا احتفل شخص ما بما وضلت إليه قيمتنا السوقية كأكبر شركة في العالم، فهذا الانجاز ليس له معنى، وأي فرح بمثل هذا الحدث من شأنه أن يمثل “بداية النهاية، فنحن لدينا هذه العادة السيئة المتمثلة في عدم قدرتنا على دفع أنفسنا للأمام، لأننا نشعر بالرضا عن النفس تجاه النجاح الذي حققناه، فى حين أنه يجب أن نتعلم كيف لا ننظر إلى الماضي، ليستمر نجاحنا في المستقبل”.
تسربت هذه الكلمات من اجتماع ناديلا مع مساعديه، ولم يصدر عنه أو عن إدارة الشركة اي بيان أو تعليق أو تصريح أو زفة أو شيء من أي نوع، يعتبر ما حدث نجاحا أو انجازا يتم التغني به والتطبيل له، بل تعامل الجميع مع ما حدث باعتباره أمرا كان من الواجب أن يحدث، وأن هذه مهمة ناديلا وفريقه التي كان من المتعين عليهم القيام بها، فقاموا بها وانتهي الأمر، وعليهم النظر للأمام، والتعامل مع ما يحمله المستقبل.
في النهاية أؤكد مجددا أن التطبيل والنفاق الممجوج لأي انجاز مهما كان سطحيا وتافها ووقتيا واعتباره اعجاز وذروة ما يمكن الوصول اليه، هو آفة من آفات التخلف الناجم عن الاستبداد وديكتاتورية الفرد، والتقييم الموضوعي للنجاح، مهما كان ساحقا وحقيقيا وعميقا، واعتباره خطوة نحو المزيد من النجاح، هو ثمرة من ثمار التقدم، الناجم والمصاحب لقيم الحرية والابداع واحترام العقل والمشاركة والمساواة والعدل.
كاتب صحفي
|
لو كان المناخ حرا عادلا، يحترم العقل ويقيم العدل والمساواة ويسمو بمبدأ المشاركة، فستكون هناك صناعة قوية محايدة، للحوكمة والشفافية والنزاهة، جاهزة دوما للتقييم الموضوعي، والتعامل مع النجاح بما يستحق، بهدوء وتعقل، مهما كان عميقا عالي القيمة ممتد الاثر
نحن لدينا هذه العادة السيئة المتمثلة في عدم قدرتنا على دفع أنفسنا للأمام، لأننا نشعر بالرضا عن النفس تجاه النجاح الذي حققناه، فى حين أنه يجب أن نتعلم كيف لا ننظر إلى الماضي، ليستمر نجاحنا في المستقبل
التقييم الموضوعي للنجاح، مهما كان ساحقا وحقيقيا وعميقا، واعتباره خطوة نحو المزيد من النجاح، هو ثمرة من ثمار التقدم، الناجم والمصاحب لقيم الحرية والابداع