جمال محمد غيطاس
في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس 2020 وقع حدث في صناعة تقنية المعلومات، اهتم به أصحاب التفكير العميق، ولم يدركه أو يهتم به من يغطون في نوم عميق، … ما هي الحكاية؟
الحكاية ببساطة أن شركة آي بي إم ـ واحدة من أعرق شركات تقنية المعلومات، وتعمل بالأسواق العالمية منذ اربعينيات القرن الماضي ـ أعلنت في مؤتمر “قمة المصادر المفتوحة” الذي عقد بمدينة سان دييجو الامريكية الخميس 22 اغسطس أنها قررت فتح المعرفة الفنية الراقية المستوي الخاصة بالتقنيات الأساسية المفتاحية للمعالجات الدقيقة فائقة الاداء التي تنتجها تحت اسم “باور” لتصبح برمجيات وتقنيات مفتوحة المصدر، بلا رسوم ترخيص أو حماية قانونية من أي نوع، ومتاحة للاستخدام عالميا بلا قيود، بكل ما تتضمنه من حقوق ملكية فكرية وبراءات اختراع.
معالجات “باور” نوعية من المعالجات الدقيقة فائقة الأداء، تعمل كوحدات تحكم مركزية في الحاسبات والاجهزة المعقدة والمتخصصة، التي تتطلب أداءا راقيا في الحوسبة، بدءا من اجهزة الالعاب كإكس بوكس وناينتندو، وانتهاء بالمعالجات المستخدمة في تشغيل مصانع السيارات ومحطات الطاقة العملاقة، وأنظمة التشغيل في الوقت الفعلي “آر تي أو إس” والانظمة المدمجة، وأنظمة التحكم اللاسلكية والصناعية والبيئية والحاسبات الكبيرة المتطورة “السوبر كمبيوتر” التي تعمل في مجالات عسكرية ومجال الفضاء، وهي ذات بنية معمارية مختلفة وأكثر قوة عن البنية المعمارية التي تقوم عليها الحاسبات الشخصية والخادمة الحالية، التي تصنعها شركتا انتل واية إم دي.
في حدود معرفتي المتواضعة فإن هذه هي المرة الأولي التي يتم فيها فتح معرفة فنية كاملة لمعالجات متطورة عالية الاداء، مستخدمة تجاريا علي نطاق واسع لعدة عقود، وجعلها متاحة مجانا حول العالم بهذه الصورة.
فطوال العقود الماضية ظلت المعرفة الفنية والتقنيات الخاصة بمعالجات باور من الاسرار المعرفية الخاضعة لقوانين حماية حقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع، ويتم تشغيلها برسوم ترخيص من اي بي إم، لكن قرار اي بي إم جعل هذه المعرفة المهمة الراقية غير خاضعة بأية صورة لقوانين حماية الملكية الفكرية وبراءات الاختراع، ويشمل القرار التصميمات المرجعية الكاملة لمعالجات باور، بكل تفاصيلها الفنية المتعلقة ببنيتها المعمارية، ولوحات تصميم وتوزيع الترانزستورات بداخلها، وواجهات تسريع المعالج، وواجهات الذاكرة المسئولة عن زيادة عرض النطاق الترددي للذاكرة بين المعالجات والاجهزة المتصلة بها لمنع الاختناقات، والمعرفة الفنية الخاصة ” بالساعة الزمنية للمعالج”.
الدافع الأساسي وراء القرار كان رغبة آي بي إم في توسيع قاعدة عملائها في سوق الحوسبة السحابية الذين يعملون علي معالجات “باور”، مما يمنحها ـ كموفر للخدمات السحابية ـ وضعا تنافسيا أقوي وأفضل أمام عمالقة الحوسبة السحابية الآخرين، مثل أمازون ومايكروسوفت وجوجل، ويضمن لها نصيبا معتبرا من كعكة أو سوق الحوسبة السحابية التي باتت تقترب حاليا من التريليون دولار.
بحسب التقارير التي نشرتها الصحافة التقنية الامريكية في ذلك الوقت، فقد أثار القرار عاصفة من الجدل في دوائر صناعة المعالجات والنظم حول العالم، ووصلت تداعياته إلي مستوي الحكومات والسلطات العليا بالولايات المتحدة ومنافسيها والمناوئين لها في عالم السياسة والتجارة والبحث والتطوير، وكذلك الكثير من الدول والمؤسسات والشركات الباحثة عن فرصة بعيدة المدي في صناعة الاتصالات وتقنية المعلومات، ومما يدل علي حساسية هذا القرار وأهميته ان الخبراء أعدوا قائمة بالخاسرين وأخري بالفائزين من وراء صدوره.
ضمت قائمة الخاسرين كل من يملك معرفة فنية وبراءات اختراع وتقنيات مستخدمة في تصنيع وبيع معالجات دقيقة علي الساحة، أو تقوم بترخيص هذه المعارف والتقنيات لآخرين مقابل رسوم تحددها هي، فضلا عن اية جهات ارتبطت مصالحها وأوضاعها ببقاء الساحة خالية من معارف فنية مجانية مفتوحة المصدر، وتتصدر القائمة شركة انتل الصانع الاكبر للمعالجات الدقيقة المستخدمة في الحاسبات المكتبية والمحمولة والخادمة، وشركة كوالكوم الصانع الأول للمعالجات المستخدمة في الاجهزة المحمولة واليدوية، وشركة “أية آر إم” منافس كوالكوم في معالجات الاجهزة اليدوية والمحمولة، وشركة أية إم دي منافس انتل في معالجات الحاسبات المكتبية والمحمولة والخادمة، ومعالجات سامسونج المعتمدة علي معالجات “اية آر إم” وكوالكوم.
كانت إدارة ترامب من أكثر الاطراف المتضررة من القرار، لأنه يوفر بديلا قويا أمام الشركات التي تطالها اجراءاتها وقيودها في مجال المعالجات، لأنها ستلجأ علي الفور للتقنيات التي جعلتها اي بي إم مفتوحة المصدر، مما يقلل من فاعلية قرارات ترامب المقيدة لها، وبالنظر للحرب التجارية التي تشنها ضد الصين وشركات التقنية بها، يعتبر القرار في غير صالحها علي الإطلاق، حيث ستستفيد الشركات الصينية وبشكل خاص شركة هواوي من هذا القرار في تسريع وتقوية قدراتها في مجال البنية التحتية للجيل الخامس للمحمول، ومكونات انظمة انترنت الاشياء، ومعالجات الهواتف الذكية، وبحسب احد التحليلات فإن القرار يعد “هدية غالية القيمة” لشركة هواوي في هذه المرحلة من خلافها مع الحكومة الامريكية.
أما الفائزون من وراء القرار فهم كل جهة أو طرف حول العالم لديه القدرة علي فهم المعارف الفنية الراقية، التي جري اتاحتها كمعرفة مفتوحة المصدر، ثم توظيفها صناعيا وتجاريا وعسكريا بل وسياسيا ان امكن، ومن ابرز من ضمتهم قائمة الفائزين الدول المناوئة للولايات المتحدة، كالصين وروسيا وايران وكوريا الشمالية، والدول المنافسة لها تجاريا كألمانيا واليابان ودول الاتحاد الاوروبي، كما تضم القائمة كل الدول الطامحة للتقدم والتي لديها مشروعات للنهوض والابداع والابتكار في هذا المجال، مثل شركات تصنيع اجهزة انترنت الاشياء، من كاميرات واجهزة استشعار ومكونات ذكية توضع بالمكانس واجهزة التكييف والستائر وخطوط الانتاج وغيرها، فالقرار يضع بين أيدي العلماء والخبراء والباحثين بالقطاعات الاكاديمية والصناعية والتجارية والقطاع الحكومي بهذه الدول والمجتمعات معرفة راقية عالية القيمة في مجال المعالجات المرتفعة الأداء، يمكن استثمارها في مستويات عدة، من الشراء والتشغيل والصيانة والدعم الفني، والتعليم والتدريب والبحث، وانتهاء بالتصنيع والتحسين والتطوير، بل وفي المجال الاستراتيجي، حيث تستخدم هذه المعالجات في بعض انظمة الدفاع والفضاء والأمن.
في مقابل هذا التفكير العميق، هناك عشرات من الدول مر عليها الحدث مرور الكرام، وهي تغط في نوم عميق، ولم تصدر عنها بادرة واحدة، دالة علي أن الأمر يدخل في نطاق اهتماماتها علي أي نحو، علي الأقل علي مستوي المتابعة والمعرفة والفهم والإدراك، والتعلم والتدريب، والخدمات التشغيلية والتجارية المتوسطة والمنخفضة المستوي التي ستنشأ من وراء طرح هذه المعرفة الفنية الراقية بصورة مجانية مفتوحة، ويمكن أن يستفيد منها من يدرسون الحاسب وعلومه بكلياتها ومعاهدها وشركاتها، وقطاعاتها الحكومية المعنية بأمر هذه الصناعة.
في النهاية كان المشهد عالميا حيال هذا الحدث مقسوما نصفين، بين التفكير العميق لدي من يعون أهميته، والنوم العميق لدي من تقنصهم الرؤية، ويعميهم التخلف، ويشغلهم شبق السلطة، فتجاهلوه ولم يعيروه التفاتا، علي الرغم مما يحمله من فرص وتداعيات.
كاتب صحفي
|
قد تكون هذه هي المرة الأولي التي يتم فيها فتح معرفة فنية كاملة لمعالجات متطورة عالية الاداء، مستخدمة تجاريا علي نطاق واسع لعدة عقود
أثار القرار عاصفة من الجدل في دوائر صناعة المعالجات والنظم حول العالم، ووصلت تداعياته إلي مستوي الحكومات والسلطات العليا
الفائزون من وراء القرار هم كل جهة أو طرف لديه القدرة علي فهم المعارف الفنية الراقية، التي جري اتاحتها ، ثم توظيفها صناعيا وتجاريا وعسكريا بل وسياسيا ان امكن